Ayat ReflectionTafseer

سورة الفاتحة

بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰن ٱلرَّحِيم

سورة الفاتحة

﴿بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰن ٱلرَّحِيم (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين (2) ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7)﴾

سورة الفاتحة: أختُلِفَ فيها فالأكثرون على أنها مكية بل من أوائل ما نزل الحمد لله من القرآن على قول وهو المروى عن علي وابن عباس وقتادة وأكثر الصحابة وعن مجاهد أنها مدنية وقد تفرد بذلك حتى عُدَّ هفوة منه وقيل نزلت بمكة حين فرضت الصلاة وبالمدينة لما حولت القبلة ليعلم أنها في الصلاة كما كانت 

وأنها مكية أصح لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾ [الحِجْر: 87] والحِجْر مكية بإجماع.

روى الترمذي عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني وهي مقسومة بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل”. أخرج البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي فقال: ألم يقل الله ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ﴾ [الأنفال: 24] – ثم قال: – ” إني لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين﴾ هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته”.

لأمر ما جعلها الله سبحانه وتعالى أصلاً في الصلاة بحيث أن المسلم يقرأها في كل ركعة وفي الحديث الشريف “لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب أو بأم الكتاب” ولهذا فهذه السورة تحتاج إلى تأمل في مفرداتها في كلياتها وجزئياتها.

سورة الفاتحة من السور ذات الأسماء الكثيرة، أنهاها صاحب ( الإتقان ) إلى نيف وعشرين بين ألقاب وصفات جرت على ألسنة القراء من عهد السلف، ولم يثبت في السنة الصحيحة والمأثور من أسمائها إلا فاتحة الكتاب، والسبع المثاني، وأم القرآن، أو أم الكتاب، فلنقتصر على بيان هذه الأسماء الثلاثة.
فأما تسميتها فاتحة الكتاب فقد ثبتت في السنة في أحاديث كثيرة منها قول النبيء صلى الله عليه وسلم ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) وفاتحة مشتقة من الفتح وهو إزالة حاجز عن مكان مقصودٍ وُلُوجه فصيغتها تقتضي أنَّ موصوفها شيء يزيل حاجزاً، وأَيَّاً ما كان ففاتحة وصفٌ وُصِفَ به مبدأ القرآن وعومِل معاملة الأسماء الجنسية، ثم أضيف إلى الكتاب ثم صار هذا المركب علماً بالغلبة على هذه السورة.

أخرج البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم)

أما السبع المثاني فلأنها سبعُ آيات تُقْرأُ مرة بعد مرة، وهي القرآن العظيم، فقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال فيما أخرج البخاري: هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: ﴿مَثانِـيَ﴾ مردَّد، ردّد موسى فـي القرآن وصالـح وهود والأنبـياء فـي أمكنة كثـيرة.

وسماها الله عز وجل: الصلاة، كما في الحديث القدسي: روى الإمام مسلم في صحيحه: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الْعَلاَءِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلاَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ» ثَلاَثاً، غَيْرُ تَمَامٍ. فَقِيلَ لأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونَ وَرَاءَ الإِمَامِ. فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ. فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ يَقُولُ: «قَالَ الله تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ. وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين﴾ قَالَ الله تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ: ﴿ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ﴾؛ قَالَ الله تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾؛ قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي (وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي) فَإِذَا قَالَ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قَالَ: هذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ  وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ قَالَ: هذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» وفي رواية: ( فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل ). 

وسورة الفاتحة تعلمنا كيف نتعامل مع الله فأولها ثناء على الله تعالى ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين﴾ وآخرها دعاء لله بالهداية ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ ولو قسمنا حروف سورة الفاتحة لوجدنا أن نصف عدد حروفها ثناء (63 حرفا) من ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ الى ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾) ونصف عدد حروفها دعاء (63 حرفا) من ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ﴾ الى ﴿وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ وكأنها اثبات للحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، الحديث) فسبحان الله العزيز الحكيم الذي قدّر كل شيء. 

ثم قال أبو عبيد: وحدثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن ابن جريج، عن ابن أبي مُلَيْكة، عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته؛ ﴿بِسْمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين. ٱلرَّحْمَـٰن ٱلرَّحِيم. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾. وهكذا، أي يقرأ الآية ثم يسكت، ثم يقرأ التي تليها.

وقد سئل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لماذا يقف بعد كل آية من آيات سورة الفاتحة فأجاب لأستمتع برد ربي، ويا لله ما أجمل أن تدور هذه المناجاة، وهذا الدعاء، وهذه الصلاة بين العبد وبين ربه، وإن القلب ليَجِفُ مقشعرا من رهبة الموقف أن يقف العبد بين يدي مولاه وسيده وملكه وربه، رب السموات السبع والأرضين، يناجيه، فيرد عليه رَبُّ العَالَمِين، فيأتيه وعد من الله تعالى بأن له ما سأل!! 

وهو القادر على العطاء بأمر بين الكاف والنون: كن فيكون!!

فله ما سأل حين يستعين به استعانة تامة شاملة، وله ما سأل حين يطلب منه الهداية لمنهاج ربه المستقيم!

بدأت السورة بحمد الله، ثم تمجيده، ثم إعلان الافتقار إليه، والانطراح بين يديه وطلب الاستعانة به، والاستهداء به، فنصفها فيه مَـجْمَعُ الثناء ونصفها فيه مجمع الحاجات، عَرَّفت الناس بربهم، بأسمائه وصفاته، وعرفتهم على العلاقة بينهم وبين ربهم: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وعرفتهم على سبيل ربهم: الصراط المستقيم، وعرفتهم على من سلك سبيل ربهم المستقيم، ومن سلكه وحاد عنه.

وسميت سورة الفاتحة بالقرآن العظيم، سميت بذلك لتضمنها جميع علوم القرآن وذلك أنها تشتمل على الثناء على الله عز وجل بأوصاف كماله وجلاله وعلى الأمر بالعبادات والإخلاص فيها والاعتراف بالعجز عن القيام بشيء منها إلا بإعانته تعالى وعلى الابتهال إليه في الهداية إلى الصراط المستقيم وكفاية أحوال الناكثين وعلى بيانه عاقبة الجاحدين.

والفاتحةُ تضمنت التوحيد والعبادة والتوكل والوعظ والتذكير ومناهج الحياة، وتعليم المسألة، لإشتمالها على جملة معاني القرآن من الحكم النظرية والأحكام العملية، فالعلوم كالتوحيد والصفات والنبوءات والمواعظ والأَمثال والحِكَم والقَصص، والأحكامُ إما عمل الجوارح وهو العبادات والمعاملات، وإما عمل القلوب أي العقول وهو تهذيب الأخلاق وآداب الشريعة، وكلها تشتمل عليها معاني الفاتحة بدلالة المطابقة أو التضمن أو الالتزام فـ ﴿ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ يشمل سائر صفات الكمال التي استحق الله لأجلها حصر الحمد له تعالى بناء على ما تدل عليه جملة  ﴿ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ من اختصاص جنس الحمد به تعالى واستحقاقه لذلك الاختصاص كما سيأتي و﴿رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ﴾ يشمل سائر صفات الأفعال والتكوين عند من أثبتها، و﴿ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ﴾ يشمل أصول التشريع الراجعة للرحمة بالمكلفين و﴿مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ﴾ يشمل أحوال القيامة، و﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ يجمع معنى الديانة والشريعة، و﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ يجمع معنى الإخلاص لله في الأعمال. وفي السورة بيان سلوك الصراط المستقيم والإطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء والأول مستفاد من قوله ﴿اهْدِنَا﴾؛ الآية؛ والإطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء، من قوله ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم﴾، إلخ وفيه وعد ووعيد فدخلا فيه، والأمثال والقصص المقصود بها الاتعاظ، وكذا الدعاء والثناء وتعليم المسألة، وهذه جملة المعاني القرآنية إجمالا مطابقة وإلتزاما، وأبسط من هذا أن يقال إنها مشتملة على أربعة أنواع من العلوم التي هي مناط الدين: الأول: علم الأصول ومعاقده معرفة الله تعالى وصفاته وإليها الإشارة بقوله ﴿رَبِّ العَالَمِين ٱلرَّحْمَـٰن ٱلرَّحِيم﴾، ومعرفة النبوات وهي المرادة بقوله تعالى ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم﴾ والمعاد الـمُومَى إليه بقوله تعالى ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، الثاني: علم الفروع وأُسُّه العبادات وهو المراد بقوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ وهي بدنية ومالية، (كالصلاة والزكاة) وهما مفتقران إلى أمور المعاش من المعاملات والمناكحات ولا بد لها من الحكومات فتمهدت الفروع على الأصول، الثالث: علم ما به يحصل الكمال وهو علم الأخلاق وَأَجَلُّهُ الوصولُ إلى الحضرة الصمدانية، والسلوك لطريقة الإستقامة في منازل هاتيك الرتب العلية وإليه الإشارة بقوله ﴿إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ الرابع: علم القصص والأخبار عن الأمم السالفة السعداء والأشقياء وما يتصل بها من الوعد والوعيد وهو المراد بقوله تعالى ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ  وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ ونستفيد من قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ بيان مناهج الحياة التي تستقيم الحياة بها.

من فضائل سورة الفاتحة

قال رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ: “والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها وإنها لهي السبع المثاني التي آتاني الله عز وجل “، هذا حديث حسن صحيح.
وعن ابن عباس قال: ” بينا رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ وعنده جبريل إذ سمع نقيضًا من فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا باب فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك فأتى النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ فقال: ” أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ حرفًا منهما إلا أعطيته “، صحيح.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ: ” من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تمام“.
قال ابن العربي: وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْنَدْنَا لَكُمْ، {أَنَّهُ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ سَبْعًا، ثَلَاثًا لِي وَثَلَاثًا لَك، وَوَاحِدَةً بَيْنِي وَبَيْنَك ; فَأَمَّا الثَّلَاثُ الَّتِي لِي: فَ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ وَأَمَّا الثَّلَاثُ الَّتِي لَك فَ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ وَأَمَّا الْوَاحِدَةُ الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَك فَ ﴿إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾} يَعْنِي: مِنْ الْعَبْدِ الْعِبَادَةَ، وَمِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الْعَوْنَ.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رهطا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلقوا في سفرة سافروها، حتى نزلوا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين قد نزلوا بكم لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لدغ، فسعينا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فهل عند أحد منكم شيء؟ فقال بعضهم: نعم والله، إني لراقٍ، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق فجعل يتفل ويقرأ الحمد لله رب العالمين حتى لكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي ما به قلبة، قال: فأوفوهم جعلهم أي صالحوهم عليه فقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان: فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له، فقال: وما يدريك أنها رقية؟ أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم بسهم. 

بعض لطائف سورة الفاتحة:

بداية السورة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين﴾ وهذه أول كلمات المصحف، يقابلها آخر كلمات سورة الناس ﴿مِنَ الجنَّةِ والنَّاسِ﴾ ابتدأ تعالى بالعالمين وختم بالجنة والناس بمعنى أن هذا الكتاب فيه الهداية للعالمين وكل مخلوقات الله تعالى من الجنة والناس وليس للبشر وحدهم أو للمسلمين فقط دون سواهم. 

آخر سورة الفاتحة قوله تعالى ﴿غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ  وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ وجاءت سورة البقرة بعدها تتحدث عن المغضوب عليهم (بني إسرائيل) وكيف عصوا ربهم ورسولهم وجاءت سورة آل عمران لتتحدث عن الضَّالِّينَ (النصارى).

وآخر كلمات سورة الفاتحة الدعاء جاءت مرتبطة ببداية سورة البقرة ﴿هُدَى للمُتَّقِينَ﴾ فكأن ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ في الفاتحة هو الهدى الذي ورد في سورة البقرة. 

أحكام التجويد في سورة الفاتحة جاءت ميسرة وليس فيها أياً من الأحكام الصعبة وهذا والعلم عند الله لتيسير تلاوتها وحفظها من كل الناس عرباً كانوا أو عجمًا

تضمنت أصولاً عظيمة: أولها التخلية عن التعطيل والشرك بما تضمنه ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾. الثاني التخلي عن خواطر الاستغناء عنه بالتبرىء من الحول والقوة تجاه عظمته بما تضمنه ﴿وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾. الثالث الرغبة في التحَلي بالرشد والاهتداء بما تضمنه ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾. الرابع الرغبة في التحلي بالأسوة الحسنة بما تضمنه ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ﴾. الخامس التهمم بالسلامة من الضلال الصريح بما تضمنه ﴿غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ﴾. السادس التهمم بسلامة تفكيرهم من الاختلاط بشبهات الباطل المموَّه بصورة الحق وهو المسمى بالضلال لأن الضلال خطأ الطريق المقصود بما تضمنه ﴿وَلاَ الضَّالِّينَ﴾.

رسم أسلوب الفاتحة للمنشئين أربع قواعد للمقدمة: القاعدة الأولى إيجاز المقدمة لئلا تمل نفوس السامعين بطول انتظار المقصود وهو ظاهر في الفاتحة، وليكون سنة للخطباء فلا يطيلوا المقدمة كي لا ينسَبوا إلى العِي فإنه بمقدار ما تطال المقدمة يقصر الغرض، ومن هذا يظهر وجه وضعها قبل السور الطوال مع أنها سورة قصيرة. الثانية أن تشير إلى الغرض المقصود وهو ما يسمى براعة الاستهلال لأن ذلك يهيىء السامعين لسماع تفصيل ما سيرد عليهم فيتأهبوا لتلقيه إن كانوا من أهل التلقي فحسب، أو لنقده وإكماله إن كانوا في تلك الدرجة، ولأن ذلك يدل على تمكن الخطيب من الغرض وثقته بسداد رأيه فيه بحيث ينبه السامعين لوعيه، وفيه سنة للخطباء ليحيطوا بأغراض كلامهم. وقد تقدم بيان اشتمال الفاتحة على هذا عند الكلام على وجه تسميتها أم القرآن. الثالثة أن تكون المقدمة من جوامع الكلم وقد بين ذلك علماء البيان عند ذكرهم المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها. الرابع أن تفتتح بحمد الله.

﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، لم لم يذكر الدنيا؟ سواء كان مالكا أو ملكا فلماذا لم يقل مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ والدنيا؟ أولا قال ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين﴾ فهو مالكهم وملكهم في الدنيا، ونستفيد ذلك من معنى الرب وهو المالك، وهذا شمل الدنيا. ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ هو مالك يوم الجزاء يعني ملك ما قبله من أيام العمل -والعمل يكون في الدنيا- كذلك، أصل كلمة الدين: جنسٌ من الانقياد والذُّل. فالدِّين: الطاعة، يقال دان لـه يَدِين دِيناً، إذا أصْحَبَ وانقاد وطَاعَ. وقومٌ دِينٌ، أي مُطِيعون منقادون، تنقاد الخلائق للقاء ربها للحساب على أعمالها، كما تدين تدان، فكان اختيار لفظة الدين بعد قوله تعالى ﴿ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ﴾ ليذكر الانسان جانب الشدة، والانقياد والحساب بين يدي رَبِّ العَالَمِين فيحسن العمل في الدنيا، قال ابن عاشور: فإنه لما وصف تعالى بأنه ﴿رب العالمين الرحمن الرحيم﴾ وكان ذلك مفيداً من التنبيه على كمال رفقه تعالى بالمربوبين في سائر أكوانهم، ثم التنبيه بأن تصرفه تعالى في الأكوان والأطوار تصرف رحمة عند المعتبر، وتصرفات الأمر والنهي المعبر عنها بالتشريع الراجع إلى حفظ مصالح الناس عامة وخاصة، وكان معظم تلك التشريعات مشتملاً على إخراج المكلف عن داعية الهوى الذي يلائمه اتباعه وفي نزعه عنه إرغام له ومشقة، خيف أن تكون تلك الأوصاف المتقدمة في فاتحة الكتاب مخففاً عن المكلفين عِبءَ العصيان لما أمروا به ومثيراً لأطماعهم في العفو عن استخفافهم بذلك وأن يمتلكهم الطمع فيعتمدوا على ما علموا من الربوبية والرحمة المؤكَّدة فلا يخشوا غائلة الإعراض عن التكاليف، لذلك كان من مقتضى المقام تعقيبه بذكر أنه صاحب الحُكم في يوم الجزاء.

ولذلك اختير هنا وصف ملك أو مالك مضافاً إلى يوم الدين. فأما ملك فهو مؤذن بإقامة العدل وعدم الهوادة فيه لأن شأن الملك أن يدبر صلاح الرعية ويذب عنهم، ولذلك أقام الناس الملوك عليهم. ولو قيل رب يوم الدين لكان فيه مطمع للمفسدين يجدون من شأن الرب رحمة وصفحاً، وأما مالك فمثل تلك في إشعاره بإقامة الجزاء على أوفق كيفياته بالأفعال المجزى عليها..

لم قال ﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾ ولم يقل يوم القيامة؟ بالإضافة لما ذكرناه آنفا، الدين بمعنى الجزاء، ويشمل الحساب والطاعة والقهر والسياسة وكلها من معاني الدين وكلمة الدين أنسب للفظ رَبِّ العَالَمِين وأنسب للمكلفين (الدين يكون لهؤلاء المكلفين) فهو أنسب من يوم القيامة لان القيامة فيها أشياء لا تتعلق بالجزاء أما الدين فمعناه الجزاء لذا ناسب اختيار كلمة الدين عن القيامة.

تبدأ السورة ب﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين، ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ وهذه كلها من أسلوب المخاطبة بضمير الغائب ثم انتقل، الى الخطاب المباشر، أي بضمير المخاطَب الحاضر، بقوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾. فلو قسنا على سياق الآيات الاولى لكان أولى القول إياه نعبد واياه نستعين. فلماذا لم يقل سبحانه هذا؟ من أفانين الكلام الالتفات وهو نقل الكلام من الخطاب بضمير المخاطب أو الغائب أو المتكلم، إلى طريق آخر منها. وهو بمجرده معدود من الفصاحة، وسماه ابن جني شجاعة العربية لأن ذلك التغيير يجدد نشاط السامع فإذا انضم إليه اعتبار لطيف يناسب الانتقال إلى ما انتقل إليه صار من أفانين البلاغة وكان معدودا عند بلغاء العرب من النفائس، وقد جاء منه في القرآن ما لا يحصى كثرة مع دقة المناسبة في الانتقال؛ وللالتفات فائدة عامة وفائدة في المقام، أما الفائدة العامة فهي تطرية لنشاط السامع وتحريك الذهن للاصغاء والانتباه، أما الفائدة  التي يقتضيها المقام فهي إذا التفت المتكلم البليغ يكون لهذه الالتفاتة فائدة غير العامة مثالها: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)﴾ (يونس) لم يقل وجرين بكم، فيها التفات لانهم عندما ركبوا في البحر وجرت بهم الفلك أصبحوا غائبين وليسوا مخاطبين. وعندما قال سبحانه ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين﴾ فهو حاضر دائما فنودي بنداء الحاضر المخاطب، الكلام من أول الفاتحة إلى ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ كله ثناء على الله تعالى والثناء يكون في الحضور والغيبة والثناء في الغيبة أصدق وأولى أما ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فهو دعاء والدعاء في الحضور أولى وأجدى اذن الثناء في الغيبة اولى والدعاء في الحضور أولى والعبادة تؤدى في الحاضر وهي أولى.

أمر آخر بخصوص الالتفات هنا، وهو أن الانسان إذ يشرع في الصلاة فإنه عادة يأتي وذهنه منشغل بأمور الدنيا، وتأخذه الصلاة نحو الخشوع شيئا فشيئا، حتى إذا وصل إلى اخلاص العبادة لله وحده، وإخلاص الاستعانة بالله وحده، كان قلبه قد استحضر لقاء ربه، فحسن أن يخاطبه بضمير المخاطب بعد أن كان يخاطبه بضمير الغائب، 

وأمر آخر، وهو لتحقيق فائدة الاخلاص في العبودية وفي الاستعانة، ولذا كان الضمير فيهما للمخاطب.

لماذا اختار كلمة الصراط بدلا من الطريق او السبيل؟ لو لاحظنا البناء اللغوي للصراط هو على وزن (فعال بكسر الفاء) وهو من الاوزان الدالة على الاشتمال كالحزام والشداد والسداد والخمار والغطاء والفراش، هذه الصيغة تدل على الاشتمال بخلاف كلمة الطريق التي لا تدل على نفس المعنى.  الصراط يدل على انه واسع رحب يتسع لكل السالكين أما كلمة طريق فهي على وزن فعيل بمعنى مطروق اي مسلوك والسبيل على وزن فعيل ونقول اسبلت الطريق اذا كثر السالكين فيها لكن ليس في صيغتها ما يدل على الاشتمال. فكلمة الصراط تدل على الاشتمال والوسع هذا في أصل البناء اللغوي (قال الزمخشري في كتابه الكشاف الصراط من صرط كانه يبتلع السبل كلما سلك فيه السالكون وكانه يبتلعهم من سعته).

خاتمة سورة الفاتحة هي مناسبة لكل ما ورد في السورة من أولها الى آخرها فمن لم يحمد الله تعالى فهو مغضوب عليه وضال، ومن لم يؤمن بيوم الدين وأن الله سبحانه وتعالى ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ ومَلِكُهِ ومن لم يخص الله تعالى بالعبادة والاستعانة ومن لم يهتد الى الصراط المستقيم؛ فهم جميعا مغضوب عليهم وضالون.

ننظر أين وردت ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين﴾ كاملة في القرآن: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين﴾ في بداية الفاتحة بعد البسملة معناه بداية عمل؛ وفي نهاية سورة الصافات بعد الحديث عن الكون وما يضم إلى قيام الساعة أي إنتهاء الحياة ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين (182)﴾ النهاية؛ وكذلك في نهاية سورة الزُّمَر، بعد انقضاء يوم القيامة، ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين (75)﴾ والأنعام ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين (45)﴾ إذن فهي ترد كاملة في مواقف على شاكلة: نهاية الحياة، بداية الفاتحة (بداية كتاب الله)،، وفي آخر الدعاء. ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين (10)﴾  يونس هذا يوم القيامة في الجنة. وفي سورة غافر ﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين (65)﴾ هنا في الدنيا،  فكأنما المعنى: الحمد لله في الأولى والآخرة. أي ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين﴾ في البدء وفي الختام.. فليحرص الداعي أن يختم دعاءه ب﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين﴾.  

تفسير الاستعاذة

أمر رَبُّ العَالَمِين سبحانه بالاستعاذة عند قراءة القرآن الكريم، فقال عز وجل: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)﴾، ثم بعدها يستفتح القارئ ببِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰن ٱلرَّحِيم، فالاستعاذة من الشيطان بقولنا: أعوذ بالله، إشارة إلى نفي ما لا ينبغي من الأقوال والأفعال والعقائد، وقول: بسم الله، إشارة إلى ما ينبغي من الأقوال والأفعال والعقائد، وإنك لتلحظ أسلوب التخلية قبل التحلية في كثير من المواطن، فتقول: لا إله، قبل أن تقول: إلا الله، فأنت تنفي، وتتبرأ من كل إله، ومن كل شريك، في الكون أن يرقى لمرتبة الألوهية، ثم بعد هذه التخلية، تتبعها بالتحلية بالإذعان والإيمان والجزم أن الإله الوحيد المستحق للعبودية، المتصرف بهذا الكون كله هو الله وحده دون غيره، وتجد هذه التخلية أيضا في قوله تعالى: ﴿فمن يكفر بالطاغوت﴾، ثم يتبعها بالتحلية في قوله: ﴿ويؤمن بالله﴾، علامة على ضرورة التخلي عن كل مناهج الكفر والشرك والإلحاد، والتبرئ منها قبل التسليم والإذعان والرضا والإيمان بمناهج الحق، إذ من حق هذا الحق الذي قامت عليه السموات والأرض أن لا يجامعه باطل، وأن لا يخالطه دنس ولا رجس فيفسده. 

وجمهور أهل العلم أن الاستعاذة مستحبة قبل قراءة القرآن، قاله ابن كثير، وهذه هي الصيغة الأولى للاستعاذة، أن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، روى مسلم في صحيحه: عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ. فَجَعَلَ أَحَدُهُمَا تَحْمَرُّ عَيْنَاهُ وَتَنْتَفِخُ أَوْدَاجُهُ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لأَعْرِفُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ: أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» فَقَالَ الرَّجُلُ: وَهَلْ تَرَى بِي مِنْ جُنُونٍ؟.

وروى الإمام أحمد في صحيحه: عن أبي سعيد الخدري قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا قام من الليل واستفتح صلاته وكبر قال: سبحانك الّلهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، ثم يقول: لا إله إلا الله ثلاثاً، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه، ثم يقول: الله أكبر ثلاثاً، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه». 

قال تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)﴾.

عن حَيْوَةَ بنِ شُرَيْحٍ «لَقِيْتُ عُقْبَةَ بنَ مُسْلِمٍ فَقُلْتُ لَهُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ حَدَّثْتَ عن عَبْدِ الله بنِ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلّم أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ المَسْجِدَ قال: أَعُوذُ بالله الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. قال: أَقَطْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قال: فَإِذَا قال ذَلِكَ قال الشَّيْطَانُ: حُفِظَ مِنِّي سَائِرِ الْيَوْمِ».

قال الراغب الأصفهاني: العوذ: الالتجاء إلى الغير والتعلق به. يقال: عاذ فلان بفلان، ومنه قوله تعالى: ﴿أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين﴾ [البقرة/67]، ﴿وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون﴾ [الدخان/20]، ﴿قل أعوذ برب﴾ [الفلق/1]، ﴿إني أعوذ بٱلرَّحْمَـٰن﴾ [مريم/18]. وأعذته بالله أعيذه. قال: ﴿إني أعيذها بك﴾ [آل عمران /36]، وقوله: ﴿معاذ الله﴾  [يوسف/79]، أي: نلتجئ إليه ونستنصر به أن نفعل ذلك، فإن ذلك سوء نتحاشى من تعاطيه. والعوذة: ما يعاذ به من الشيء، ومنه قيل: للتميمة والرقية: عوذة، وعَوَّذَهُ: إذا وَقاه،  

والرَّجْمُ: الرمي بالرِّجام. يقال: رجم فهو مرجوم، قال تعالى: ﴿لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين﴾ [الشعراء/116]، أي: المقتولين أقبح قتلة، وقال: ﴿ولولا رهطك لرجمناك﴾ [هود/91]، والرجيم فعيل بمعنى مفعول أي مرجوم، كسعير بمعنى مسعور.

وتأتي الاستعاذة بمعنى: أستجير بالله، وأتحرز به، وأستعين به، وأمتنع به من المكروه، وأتعلق به، وأتحيز إليه وألوذ به. قال ابن كثير: والعياذة لدفع الشر واللياذة لطلب الخير

والشيطان مأخوذ عند جمهور أهل اللغة من شَطَنَ بمعنى: بَعُدَ، يقال بئر شطون، أي بعيدة القعر والمدى.

وقيل إنه مأخوذ من شاط يشيط إذا هاج واشتد غضبا، وهلك واحترق وبطل، والأول أرجح

قال ابن كثير في كلامه عن الاستعاذة “وهي استعانة بالله واعتراف له بالقدرة، وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو الـمُبِينِ الباطني الذي لا يقدر على منعه ودفعه إلا الله الذي خلقه، ولا يقبل مُصانَعَةً ولا يُدارى بالإحسان” ولا شك أن خطره عظيم فقد يكيد للانسان ويتدرج به إذا وجد سبيلا إليه حتى يوقعه في الكفر، ولا سبيل له على عباد الله المخلَصين، قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)﴾ ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)﴾

كلمة الشيطان من الشطن الذي هو الحبل الممتد يعني أن هذا الشيطان يمتد إليك فكن حذراً منه لكن حتى لا يغالي الإنسان في كثرة الخوف منه جاءت كلمة الرجيم وكلمة الرجيم هنا هذا الوصف هو أنسب الأوصاف للشيطان في هذا المكان يعني ما قال الشيطان اللعين، وإنما الرجيم حتى تتخيل صورته وهو يُرجم بالحجارة فكأنه منشغل بنفسه، فكلمة شيطان فيه حبل ممتد إليك حتى لا تتهاون في شأنه وكلمة رجيم حتى  لا يبلغ بك الخوف منه مبلغاً عظيماً فهو رجيم مرجوم.

تفسير البسملة

أما البسملة، فلفظها: ﴿بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰن ٱلرَّحِيم﴾، وحذفت ألف باسم لفظا وخطا، تخفيفا لكثرة الاستعمال، ولا تحذف إلا مع لفظ الجلالة “الله” وتثبت في غيره، كقوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ 

والبدء باسم اللّه هو الأدب الذي أوحى اللّه لنبيه – صلى اللّه عليه وسلم – في أول ما نزل من القرآن باتفاق، وهو قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ…﴾.

أنت حين تبدأ كل شيء باسم الله.. كأنك تجعل الله في جانبك يعينك.. ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه علمنا أن نبدأ كل شيء باسم الله.. لأن الله هو الاسم الجامع لصفات الكمال سبحانه وتعالى.. والفعل عادة يحتاج إلى صفات متعددة.. فأنت حين تبدأ عملا تحتاج إلى قدرة الله وإلى عونه وإلى رحمته.. فلو أن الله سبحانه وتعالى لم يخبرنا بالاسم الجامع لكل الصفات.. كان علينا أن نحدد الصفات التي نحتاج إليها.. كأن نقول باسم الله القوي وباسم الله الرازق وباسم الله المجيب وباسم الله القادر وباسم الله النافع.. إلى غير ذلك من الأسماء والصفات التي نريد أن نستعين بها.. ولكن الله تبارك وتعالى جعلنا نقول بسم الله بسم الله بسم الله الجامع لكل هذه الصفات، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰن ٱلرَّحِيم أقطع”
ومعنى أقطع أي مقطوع الذنَبِ أو الذيل.. أي عمل ناقص فيه شيء ضائع.. .
واتفقت المصاحف على افتتاحها ب ﴿بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰن ٱلرَّحِيم﴾ واختلف الأئمة فيها، فقال مالك: ليست آية لا من الفاتحة ولا من غيرها إلا من النمل خاصة، وقال الشافعي: هى آية من الفاتحة فقط، وقال ابن عباس: هى آية من كل سورة.
فحجة مالك: ما فى الصحيح عنه صلى اللّه عليه وسلّم قال: «أنزلت عليَّ سورة ليس فى التوراة ولا فى الإنجيل ولا فى الفرقان مثلها، ثم قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين﴾ ولم يذكر البسملة. وكذلك ما ورد فى الصحيح أيضا أن اللّه يقول: «قسمت الصّلاة بينى وبين عبدى نصفين. يقول العبد: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين﴾ فبدأ بها دون البسملة.
وحجة الشافعي: ما ورد فى الصحيح «أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم كان يقرأ ﴿بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰن ٱلرَّحِيم. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين﴾. وحجة ابن عباس: ثبوت البسملة مع كل سورة فى المصحف، مع تحرّي الصحابة ألا يدخلوا فى المصحف غير كلام اللّه، وقالوا: ما بين الدفّتين كلام اللّه.
وإذا ابتدأتَ أوّلَ سورة بَسْمَلْتَ إلا براءة، وسيأتى الكلام عليها. وإذا ابتدأت جزء سورة فأنت مخير عند الجمهور.
وإذا أتممت سورة وابتدأت أخرى فاختلف القرّاء فى البسملة وتركها.
وأما حكمها فى الصلاة، فقال مالك: مكروهة فى الفرض دون النفل، وقال الشافعي: فرض تبطل الصلاة بتركها، فيبسمل – عنده – جهرا فى الجهر وسرا فى السر، وعند أبى حنيفة كذلك إلا أنه يُسِرُّها مطلقا، وحجة مالك أنها ليست بآية: ما فى الحديث الصحيح عن أنس أنه قال: (صلّيت خلف النبي صلى اللّه عليه وسلّم وأبى بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون ب﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين﴾) لا يذكرون البسملة أصلا. وحجة الشافعي أنها عنده آية: ما ورد فى الحديث من قراءتها كما تقدم.

قال الأستاذ أبو الحارث نور الدين التميمي أجزل الله له المثوبة:

لا يمكن أن يختلف مسلمان بأي أمر من أمور العقيدة ما دام قطعيا في ثبوته، ولا خلاف بينهما على القطع فيه، وإذا حصل الخلاف على القطع فيه أو الظن فإنه بحصول الخلاف (إذا كان الخلاف مسوغا) ينزل طبيعيا من درجة القطع إلى درجة الظن. لقد اختلف المسلمون في البسملة هل هي آية في الفاتحة أم ليست بآية، لذا فمجرد وجود الخلاف في البسملة يقطع بأنها ليست آية إذ لو أنها آية كقوله تعالى ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين لما اختلف فيها المسلمون، فهم لم يختلفوا على ثبوت القطعي من العقائد فلم يختلفوا على سورة ق مثلا أو آية من آياتها على أنها من القرآن الكريم. انتهى، قال القرطبي رحمه الله في تفسيره: الخامسة: – الصحيح من هذه الأقوال قول مالك، لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقه التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه. قال ابن العربي: “ويكفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها، والقرآن لا يختلف فيه”. والأخبار الصحاح التي لا مطعن فيها دالة على أن البسملة ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها إلا في النمل وحدها.

﴿بسم الله﴾، الباء للاستعانة، أي باسم الله أقرأ، أو أتوضأ مستعينا به، ومتيمنا ومتبركا.

والاسم مأخوذ من الوَسم، وهو العلامة، لأن الاسم علامة على من وضع له، وهو اختيار الكوفيين، وأما البصريون وأكثر النحويين، فالاسم عندهم مأخوذ من السمو، أي العلو والارتفاع، لأنه يسمو بالمسمى، فيرفعه عن غيره، قال النسفي: “واشتقاقه من السمو وهو الرفعة لأن التسمية تنويه بالمسمّى وإشادة بذكره” وقول الكوفيين أظهر من حيث المعنى، ولكن تصريف الاسم وجمعه يقوي قول البصريين، إذ يُصغَّر على سُمَـيّ، ولو كان من السمة، لكان أصله وسم، وجمع على أوسام، وصُغر على وُسَيْم، لأن الجمع والتصغير يردان الأشياء إلى أصولها.

والإسم هو اللفظ الدال بالوضع على موجود في العيان إن كان محسوسا وفي الأذهان إن كان معقولا من غير تعرض ببنيته للزمانِ، ومدلولُهُ هو المسمى

الله

و ﴿الله﴾  عَلَمٌ على “الرب” سبحانه وتعالى، خاص به ولا يجوز أن يسمى به غيره، قال سيبويه “وهو أعرف المعارف” وهو أصل أسمائه الحسنى ودالٌّ عليها جميعا، وعلى صفاته العليا، بل قيل إنه الاسم الأعظم. 

(ال) للعهد في شخص أو جنس وللحضور ولِلَمْحِ الصفة وللغلبة وموصولة. 

والله أصله الإله ونظيره الناس أصله الأناس، والإله من أسماء الأجناس يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بالحق، وأما الله بحذف الهمزة فمختص بالمعبود بالحق لم يطلق على غيره، وهو اسم غير صفة لأنك تصفه ولا تصف به، ولا تقول شيء إله كما لا تقول شيء رجل، وتقول الله واحد صمد، ولأن صفاته تعالى لا بد لها من موصوف تجري عليه فلو جعلتها كلها صفات لبقيت صفات غير جارية على اسم موصوف بها وذا لا يجوز.،

واختلفوا في هذا الاسم هل هو مشتق أو موضوع للذات عَلَم؟. فذهب إلى الأوّل كثير من أهل العلم. واختلفوا في اشتقاقه وأصله؛ فروى سيبويه عن الخليل أن أصله إلاه، مثل فِعَال؛ فأدخلت الألف واللام بدلاً من الهمزة. قال سيبويه: مِثل الناس أصله أناس، قال أبو حيان التوحيدي: فحذفت الهمزة اعتباطا كما قيل في ناس أصله أناس أو حذفت للنقل ولزم مع الإدغام وكلا القولين شاذ

وقيل: أصل الكلمة «لاه» وعليه دخلت الألف واللام للتعظيم، وهذا اختيار سيبويه. وأنشد:

لاهِ ابنُ عَمّكَ لا أفضلتَ في حسَبٍ    عني ولا أنت ديّاني فتخزوني

كذا الرواية: فتخزوني، بالخاء المعجمة ومعناه: تسوسني، قال أبو حيان التوحيدي: وقيل مشتق ومادته قيل: لام وياء وهاء من لاه يليه ارتفع. قيل: ولذلك سميت الشمس إلاهه بكسر الهمزة وفتحها وقيل: لام وواو وهاء من لاه يلوه لوها احتجب أو استنار ووزنه إذ ذاك فعل أو فعل وقيل: الألف زائدة ومادته همزة ولام من أله أي فزع قاله ابن إسحاق أو أله تحير قاله أبو عمر وأله عبد قاله النضر أو أله سكن قاله المبرد.

وقال الكسائي والفرّاء: معنى ﴿بسم الله﴾ بسم الإله؛ فحذفوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية فصارتا لاماً مشدّدة؛ وقال الزمخشري: أما اللام فللفصل بينها وبين لام الابتداء، وأما الباء فلكونها لازمة للحرفية والجر، والاسم أحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون، فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة، لئلا يقع ابتداؤهم بالساكن إذا كان دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرك ويقفوا على الساكن، لسلامة لغتهم من كل لكنة وبشاعة، ولوضعها على غاية من الإحكام والرصانة. ومنهم من لم يزدها واستغنى عنها بتحريك الساكن، فقال: سم وسم. قال: بِاسْمِ الذِي في كلِّ سُورةٍ سِمُهْ، وهو من الأسماء المحذوفة الأعجاز: كَيَد ودَم، وأصله: سَمو، بدليل تصريفه: كأسماء، وسَمى، وسميت. واشتقاقه من السمو، لأنّ التسمية تنويه بالمسمى وإشادة بذكره »

ثم قيل: هو  (أي الله) مشتق من «وَلَه» إذا تحيّر؛ والوله: ذهاب العقل. يقال: رجل وَاله وامرأة والهة ووَالُه، وماء موله: أرسل في الصحارى. فالله سبحانه تتحير الألباب وتذهب في حقائق صفاته والفِكَر في معرفته. فعلى هذا أصل «إلاه» «ولاه» وأن الهمزة مبدلة من واو كما أبدلت في إشاح ووشاح، وإسادة ووسادة؛ ورُوي عن الخليل. 

ورُوي عن الضحاك أنه قال: إنما سُمّيَ «الله» إلهاً، لأن الخلق يتألّهون إليه في حوائجهم، ويتضرّعون إليه عند شدائدهم. وذُكر عن الخليل بن أحمد أنه قال: لأن الخلق يألَهُون إليه (بنصب اللام) ويألِهُون أيضاً (بكسرها) وهما لغتان. وقيل: إنه مشتق من الارتفاع؛ فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع: لاهاً، فكانوا يقولون إذا طلعت الشمس: لاهت. وقيل: هو مشتق من أله الرجل إذا تعبّد. وتألَّه إذا تنسّك؛ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَۚ﴾ على هذه القراءة؛ فإن ابن عباس وغيره قالوا: وعبادتك، قالوا: فاسم الله مشتق من هذا، فالله سبحانه معناه المقصود بالعبادة، ومنه قول الموحدين: ﴿لا إله إلا الله﴾، معناه لا معبود غير الله. و «إلا» في الكلمة بمعنى غَيْر، لا بمعنى الاستثناء.

قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِيمَا أُخْبِرْتُ عَنْهُ اخْتَلَفَ النَّاسُ، هَلْ هُوَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ أَوْ مُشْتَقٌّ؟ فَرُوِيَ فِيهِ عَنِ الْخَلِيلِ رِوَايَتَانِ إِحْدَاهُمَا، أَنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ لَيْسَ بِمُشْتَقٍّ، فَلا يَجُوزُ حَذْفُ الأَلْفِ أَوِ اللامِ مِنْهُ، كَمَا يَجُوزُ مِنَ ﴿ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ﴾، وَرَوَى عَنْهُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ، فَكَانَ فِي الأَصْلِ إِلاهٌ مِثْلَ فِعَالٍ، فَأَدْخَلَ الأَلِفَ وَاللامَ بَدَلا مِنَ الْهَمْزَةِ وَقَالَ غَيْرُهُ: أَصْلُهُ فِي الْكَلامِ إِلَهٌ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ أَلَهَ الرَّجُلُ يَأْلَهُ إِلَيْهِ إِذَا فَزِعَ إِلَيْهِ مِنْ أَمَرٍ نَزَلَ بِهِ، فَآلَهَهُ أَيْ أَجَارَهُ وَآمَنَهُ، فَسُمِّيَ إِلاهًا كَمَا يُسَمَّى الرَّجُلُ إِمَامًا إِذَا أَمَّ النَّاسَ فَأْتَمُّوا بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ اسْمًا لِعَظِيمٍ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ أَرَادُوا تَفْخِيمَهُ بِالتَّعْرِيفِ الَّذِي هُوَ الأَلِفُ وَاللامُ، لأَنَّهُمْ أَفْرَدُوهُ بِهَذَا الاسْمِ دُونَ غَيْرِهِ فَقَالُوا: الإِلَهُ، وَاسْتَثْقَلُوا الْهَمْزَةَ فِي كَلِمَةٍ يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُمْ إِيَّاهَا، وَلِلْهَمْزَةِ فِي وَسَطِ الْكَلامِ ضَغْطَةٌ شَدِيدَةٌ، فَحَذَفُوهَا فَصَارَ الاسْمُ كَمَا نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ

قال الزَّجَّاجُ: وأما الكلام في قولنا ( الله ) فعلى وجهين لفظا ومعنى: أما اللفظ فعلى قولين: أحدهما أن أصله إلاه فِعَال ويقال بل أصله لاه فَعْل ولا تلتفت إلى ما ذكره في (كتاب القرآن) فإن الصحيح ما ذكرها هنا.
واختلفوا في هل هو مشتق أم غير مشتق فذهبت طائفة إلى أنه مشتق وذهب جماعة ممن يوثق بعلمه إلى أنه غير مشتق وعلى هذا القول المعول، ولا تعرج على قول من ذهب إلى أنه مشتق من وله يوله وذلك لأنه لو كان منه لقيل في تفعل منه توله لأن الواو فيه واو في توله وفي إجماعهم على أنه تأله بالهمز ما يبين أنه ليس من وَلِهَ…، 

ومعنى قولنا إلاه إنما هو الذي يستحق العبادة وهو تعالى المستحق لها دون من سواه .

قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: الهمزة واللام والهاء أصل واحد، وهو التعبُّد. فالإله الله تعالى، وسمّيَ بذلك لأنّه معبود. ويقال تألّه الرجُل، إذا تعبّد. قال رؤبة:

للهِ دَرُّ الغانِياتِ الـمُدَّهِ *** سَبَّحْنَ واستَرْجَعْنَ مِن تَأَلُّهِي

والإلاهة: الشَّمْس، سمّيت بذلك لأنّ قوما كانوا يعبدونها. قال الشاعر: * فبادَرْنا الإلاهَة أنْ تؤوبا *

فأما قولهم في التحيُّر ألِهَ يَأْلَهُ فليس من الباب، لأنّ الهمزة واو. وقد ذكر في بابه.

وجاء في لسان العرب: قال ابن الأَثـير: هو مأْخوذ من إِلهٍ، وتقديرها فُعْلانِـيَّة، بالضم، تقول إِلهٌ بَـيِّنُ الإِلهِيَّة والأُلهانِـيَّة، وأَصله من أَلِهَ يَأْلَهُ إِذا تَـحَيَّر، يريد إِذا وقع العبد فـي عظمة الله وجلاله وغير ذلك من صفات الربوبـية وصَرَفَ وَهْمَه إِلـيها،… وروى الـمنذري عن أَبـي الهيثم أَنه سأَله عن اشتقاق اسم الله تعالـى فـي اللغة فقال: كان حقه إِلاهٌ، أُدخـلت الأَلف واللام تعريفاً، فقـيل أَلإِلاهُ، ثم حذفت العرب الهمزة استثقالاً لها، فلـما تركوا الهمزة حوَّلوا كسرتها فـي اللام التـي هي لام التعريف، وذهبت الهمزة أَصلاً فقالوا أَلِلاهٌ، فحرَّكوا لام التعريف التـي لا تكون إِلاَّ ساكنة، ثم التقـى لامان متـحركتان فأَدغموا الأُولـى فـي الثانـية، فقالوا: الله، كما قال الله عز وجل: ﴿لكنا هو الله ربـي﴾، معناه، لكن أَنا، ثم إِن العرب لـما سمعوا اللَّهم جرت فـي كلام الـخـلق توهموا أَنه إِذا أُلقـيت الأَلف واللام من الله كان الباقـي لاه، فقالوا لاهُمَّ؛ وأَنشد: لاهُمَّ أَنتَ تَـجْبُرُ الكَسَيرَا،  أَنت وَهَبْتَ جِلَّةً جُرْجُورا

ومعنى “الله” أي المألوه المعبود بحق، الذي تعبده الخلائق، وتتأله له محبة وتعظيما وخضوعا له، وفزعا إليه في الحوائج والنوائب، لما له من صفات الألوهية وهي صفات الكمال.

قال الإمام أبو حامد الغزالي: فأما قوله (الله) فهو اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإلهية، المنعوت بنعوت الربوبية، المتفرد بالوجود الحقيقي، فإن كل موجود سواه غير مستحق الوجود بذاته، وإنما استفاد الوجود منه،… والأشبه أنه جار في الدلالة على المعنى مجرى أسماء الأعلام، وكل ما ذكر في اشتقاقه وتعريفه تعسف وتكلف

والذي نميل إليه أن مدار كلمة الله على التعبد، فهو المألوه أي المعبود بحق، ويصعب فض الخلاف في أصل الكلمة وهل هي مشتقة أم لا.

﴿ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ﴾

وٱلرَّحْمَـٰنُ فَعْلان من رَحِمَ، كغضبان وعطشان، من غَضِبَ وعَطشَ، وكذلك ٱلرَّحِيمُ فعيلٌ منه، كمريض وسقيم، من مرض وسقم، وفي ٱلرَّحْمَـٰنِ من المبالغة ما ليس في ٱلرَّحِيمِ، ولذلك قالوا: رحمنُ الدنيا والآخرةِ، ورحيمُ الدنيا، ويقولون: إنّ الزيادة في البناء لزيادة المعنى. وقيل: رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن، وفي الحديث في مجمع الزوائد: عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم افتقده يوم الجمعة، فلما صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتى معاذاً فقال: «يا مُعَاذُ مَا لِي لَمْ أَرَكَ؟» فقال: يا رسول الله، ليَهُودِيٌّ عليَّ أوقية من تِبْرٍ، فخرجت إليك فحبسني عنك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يا مُعَاذُ أَلاَ أُعَلِّمُكَ دُعَاءً تَدْعُو بِهِ لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِنَ الدَّيْنِ مِثْلُ صُبْرَ أَدَّاهُ الله عَنْكَ» ـ وصُبْر: جبل باليمن ـ «فادْعُ الله يا مُعَاذُ، ﴿قُل اللهمَّ مَالِكَ الـمُلْكِ تُؤْتِي الـمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وتَنْزِعُ الـمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ، وتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ، وتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ، وتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ، وتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ، وتُخْرِجَ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ، وتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، رَحْمَنَ الدُّنْيَا والآخِرَةِ ورَحِيمَهُمَا، تُعْطِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُمَا وتَمْنَعُ مَنْ تَشَاءُ، ارْحَمْنِي رَحْمَةً تُغْنِينِي بِهَا عَنْ رَحْمَةِ مَنْ سِوَاكَ»

وروى الإمام أحمد في مسنده: حدثنا عبد الله حدَّثني أبي ثنا يزيد بن هارون أخبرنا هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ أن أباه حدَّثه: «أنه دخل على عبد ٱلرَّحْمَـٰن بن عوف وهو مريض، فقال له عبد ٱلرَّحْمَـٰن: وصِلَتُكَ رَحِمٌ، إن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: قال عز وجل أنا ٱلرَّحْمَـٰن خلقت الرَّحِمَ وشققت لها من اسمي، فمن يصلها أَصلُه، ومن يقطعها أقطعه فأَبُتُّه، – أو قال من يَبُتُّها – أَبُتُّهُ»

قال ابن فارس: الراء والحاء والميم أصلٌ واحدٌ يدلُّ على الرّقّة والعطف والرأفة. يقال من ذلك رَحِمَه يَرْحَمُه، إذا رَقَّ لـه وتعطَّفَ عليه. والرُّحْمُ والـمَرْحَمَة والرَّحْمَة بمعنىً. والرَّحِم: عَلاقة القرابة، ثم سمِّيت رَحِمُ الأنثى رَحِماً من هذا، لأنّ منها ما يكون ما يُرْحَمُ وَيُرَقّ لـه مِن ولد.

وقال ابن منظور في لسان العرب: والله ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ بنيت الصفة الأُولى على فَعْلانَ لأَن معناه الكثرة وذلك لأَن رحمته وسِعَتْ كل شيء وهو أَرْحَمُ الراحمينَ فأَما ٱلرَّحِيمُ فإِنما ذكر بعد ٱلرَّحْمَـٰنِ لأَن ٱلرَّحْمَـٰنَ مقصورٌ على الله عز وجل وٱلرَّحِيمُ قد يكون لغيره قال الفارسي إِنما قيل بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰن ٱلرَّحِيم فجيء بٱلرَّحِيم بعد استغراق ٱلرَّحْمَـٰن معنى الرحْمَة لتخصيص المؤمنين به في قوله تعالى ﴿وكانَ بالمؤمِنينَ رَحِيماً﴾. ومعناه عند أَهل اللغة ذو الرحْمةِ التي لا غاية بعدها في الرَّحْمةِ لأَن فَعْلان بناء من أَبنية المبالغة ورَحِيمٌ فَعِيلٌ بمعنى فاعلٍ كما قالوا سَمِيعٌ بمعنى سامِع وقديرٌ بمعنى قادر، قال الأَزهري ولا يجوز أَن يقال رَحْمن إِلاَّ الله عز وجل وفَعَلان من أَبنية ما يُبالَغُ في وصفه، فٱلرَّحْمَـٰن الذي وسعت رحمته كل شيء فلا يجوز أَن يقال رَحْمن لغير الله وحكى الأَزهري عن أبي العباس في قوله ﴿ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ﴾: جمع بينهما لأَن ٱلرَّحْمَـٰنَ عِبْرانيّ وٱلرَّحِيمُ عَرَبيّ وأَنشد لجرير:

لن تُدْرِكوا الـمـَجْد أَو تَشْرُوا عَباءَكُمُ بالخَزِّ أَو تَجْعَلُوا اليَنْبُوتَ ضَمْرانا 

أَو تَتْركون إِلى القَسَّيْنِ هِجْرَتَكُمْ ومَسْحَكُمْ صُلْبَهُمْ رَحْمانَ قُرْبانا؟ 

وقال ابن عباس: هما اسمان رقيقان أَحدهما أَرق من الآخر فٱلرَّحْمَـٰن الرقيق وٱلرَّحِيم العاطف على خلقه بالرزق،

قال الخطابي: وهذا مشكل؛ لأن الرقة لا مدخل لها في شيء من صفات الله تعالى. وقال الحسين بن الفضل البجلي: هذا وهْمٌ من الراوي، لأن الرقة ليست من صفات الله تعالى في شيء، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما أرفق من الآخر، والرفق من صفات الله عز وجل؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف”

وقال الحسن: ٱلرَّحْمَـٰنُ اسم ممتنع لا يُسَمّى غيرُ الله به وقد يقال رجل رَحيم، قال الجوهري: ٱلرَّحْمَـٰنُ وٱلرَّحِيمُ اسمان مشتقان من الرَّحْمة ونظيرهما في اللغة نَديمٌ ونَدْمان وهما بمعنى ويجوز تكرير الاسمين إِذا اختلف اشتقاقهما على جهة التوكيد كما يقال فلان جادٌّ مُجِدٌّ، إِلا أَن ٱلرَّحْمَـٰنَ اسم مختص لله تعالى لا يجوز أَن يُسَمّى به غيره ولا يوصف أَلا ترى أَنه قال ﴿قل ادْعُوا الله أَو ادعوا ٱلرَّحْمَـٰنَ﴾؟ فعادل به الاسم الذي لا يَشْرَكُهُ فيه غيره وهما من أَبنية المبالغة ورَحمنٌ أَبلغ من رَحِيمٌ وٱلرَّحِيمُ يوصف به غير الله تعالى فيقال رجلٌ رَحِيمٌ ولا يقال رَحْمنٌ، وٱلرَّحِيمُ قد يكون بمعنى الـمَرْحوم قال عَمَلَّسُ بن عقيلٍ فأَما إِذا عَضَّتْ بك الحَرْبُ عَضَّةً فإِنك معطوف عليك رَحِيم 

والرَّحْمَةُ في بني آدم عند العرب رِقَّةُ القلب وعطفه ورَحْمَةُ الله عَطْفُه وإِحسانه ورزقه

فإن قلت: ما معنى وصف اللَّه تعالى بالرّحمة ومعناها العطف والحنوّ ومنها الرحم لانعطافها على ما فيها؟ قلت: هو مجاز عن إنعامه على عباده لأنّ الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم أصابهم بمعروفه وإنعامه، كما أنه إذا أدركته الفظاظة والقسوة عنف بهم ومنعهم خيره ومعروفه. فإن قلت: فلم قدّم ما هو أبلغ من الوصفين على ما هو دونه،  والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى كقولهم: فلان عالم نحرير، وشجاع باسل، وجودا فياض؟ قلت: لما قال ٱلرَّحْمَـٰن فتناول جلائل النعم وعظائمها وأصولها، أردفه ٱلرَّحِيم كالتتمة والرديف ليتناول ما دقّ منها ولطف.

ووقوع صفتين تدلان على الرحمة بعد كلمة الرب يدلنا على أن الرحمة هي من صفات الله تعالى العليا وفيها اشارة الى ان المربي يجب ان يتحلى بالرحمة وتكون من أبرز صفاته وليست القسوة والرب بكل معانيه ينبغي أن يتصف بالرحمة سواء كان مربيا أو سيدا أو قيِّما وقد وصف الله تعالى رسوله بالرحمة.

وقال ابن المبارك: “ٱلرَّحْمَـٰنُ” إذا سُئِلَ أَعْطَى، و”ٱلرَّحِيمُ” إذا لم يُسْأَلْ غضب. وروى ابن ماجة في سننه والترمذي في جامعه عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من لم يَسْأَلِ الله يغضب عليه” لفظ الترمذي. وقال ابن ماجة: “من لم يَدْعُ الله سبحانه غضب عليه”.

قال أبو حامد الغزالي: معاني الأسماء يُتصوَّر أن يتصف العبد بشيء منها حتى ينطلق عليه الاسم، كٱلرَّحِيم والعليم والحليم والصبور والشكور وغيرها، وإن كان إطلاق الاسم عليه على وجه آخر يباين إطلاقه على الله عز وجل،

قال الرازي: في هذه السورة كلمتان مضافتان إلى اسم الله واسمان مضافان إلى غير الله: أما الكلمتان المضافتان إلى اسم الله فهما قوله: بسم الله وقوله: الحمد لله فقوله بسم الله لبداية الأمور وقوله الحمد لله لخواتيم الأمور فبسم الله ذِكر والحمد لله شكر فلما قال بسم الله استحق الرحمة ولما قال الحمد لله استحق رحمة أخرى فبقوله بسم الله استحق الرحمة من اسم ٱلرَّحْمَـٰن وبقوله الحمد لله استحق الرحمة من اسم ٱلرَّحِيم فلهذا المعنى قيل: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة

إنّ كلمتي “ٱلرَّحْمَـٰن” و “ٱلرَّحِيم” مشتقّتان من “الرحمة” وهي المصدر. فمادّة الكلمة هي “ر ح م” وفعلها “رحم”. واسم الفاعل فيها هو “الراحم” و”ٱلرَّحْمَـٰن” و”ٱلرَّحِيم”. 

فلفظة “ٱلرَّحْمَـٰن” التي أصلها “الرحمان” مبنيّة على وزن “فَعْلاَن”؛ وهذا الوزن، أي زيادة ألف مدّ ونون في آخر مادّة كلمة ثلاثيّة يدلّ على الكثرة والتأكيد والمبالغة، وتأتي المبالغة في العطاء وفي الخلود في العطاء.. 

قال النسفي: ٱلرَّحْمَـٰن معناه عند أهل اللغة ذو الرحمة التي لا غاية بعدها في الرحمة لأن فعلان من أبنية المبالغة تقول: رجل عطشان إذا كان في نهاية العطش ويفيد وزن فعلان أيضا معنى الحدوث والتجدد والامتلاء بالوصف، وهي هنا في مادة ٱلرَّحْمَـٰن: صفة تبعث على الخوف، إذ أن العطشان من المخلوقات إذا شرب ارتوى، فزال عنه العطش، والغضبان إذا سكت عنه الغضب رضي، وهكذا تتجدد الأحوال على المخلوقات، وصفة ٱلرَّحْمَـٰن تتعلق بالبشر على اختلاف مشاربهم وأفعالهم، فلها أحوال باعتبار نسبتها لمن تتعلق به تلك الرحمة، فتجد أن ٱلرَّحْمَـٰن  يعطف ويرق على من استحق الرحمة، وهو شديد العقاب على من استحق العقاب، فَيَفْرَقُ الانسان إذا أدرك أنه قد يأتي بما يجعل مُتَعَلَّقَ صفة ٱلرَّحْمَـٰن يتغيرُ عليه فلا تناله تلك الرحمة، على أن مبناها قائم على الثبوت والبقاء، فالصفات الواردة على وزن فعلان تتراوح في التغيير بحسب متعلقها، فالفرح يحصل ويسرع زواله، ومنها ما يبطؤ زواله كالجوع والشبع، ومبنى ٱلرَّحْمَـٰن قائم على الثبوت والبقاء.

أمّا لفظة “رحيـم” فهي مبنيّة على وزن “فعيل”، وهذا الوزن، أي زيادة ياء المدّ بين الحرف الثاني (ح) والثالث (م) من المادة يدلّ على التمييز والمبالغة، أي أنّ صاحبه يتميّز بتلك الصفة لدرجة أنّها أصبحت غالبة عليه ومثل ذلك الحكيم والعليم والسميع والحفيظ، قال أبو العلا المباركفوري: ﴿ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ﴾ هما اسمان مشتقان من الرحمة مثل ندمان ونديم وهما من أبنية المبالغة، أي أنها تدل على الثبوت في الصفة، فالذي يسمع صفة ٱلرَّحْمَـٰن، فيخاف أن يقترف ما يستوجب أن لا يستحق الدخول في هذه الرحمة، يسمع بعدها صفة الثبات في الرحمة، أي صفة ٱلرَّحِيم، فتطمئن نفسه.

فٱلرَّحْمَـٰن إذن فيها دلالة على التجدد، وٱلرَّحِيم فيها دلالة على الثبوت، جاء سبحانه وتعالى بصفتين تدلان على التجدد والثبوت معا فلو قال ٱلرَّحْمَـٰن فقط لتوهم السامع ان هذه الصفة طارئة قد تزول كما يزول الجوع من الجوعان والغضب من الغضبان وغيره. ولو قال رحيم وحدها لفهم منها أن صفة رحيم مع انها ثابتة لكنها ليست بالضرورة على الدوام ظاهرة

وٱلرَّحْمَـٰنُ وٱلرَّحِيمُ صفتان من صفات المولى عز وجل، أي أنهما اسمان من أسماء الله الحسنى، وصفتان من صفات الله تبارك وتعالى، وسنقف قليلا على موضوع الصفات هنا، بما يخدم تفسير سورة الفاتحة، على أن نفرد له بحثا مطولا في ملحقات هذا التفسير المبارك بإذن الله تعالى، فنقول وبالله تعالى التوفيق:

قال الله جل ثناؤه: ﴿ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها﴾، وقال تعالى: ﴿قل ادعوا الله أو ادعوا ٱلرَّحْمَـٰن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى﴾، وقال: ﴿واذكروا اسم الله عليه﴾، وقال: ﴿له الأسماء الحسنى﴾.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ عَبْدَانَ الأَهْوَازِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، أَخْبَرَنَا تَمْتَامٌ مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبٍ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَحْيَا وَبِاسْمِكَ أَمُوتُ وَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ.
قال الإمام البيهقي: وفي إثبات أسمائه إثبات صفاته، لأنه إذا ثبت كونه موجودا، فوصف بأنه حي، فقد وصف بزيادة صفة على الذات هي الحياة، فإذا وصف بأنه قادر فقد وصف بزيادة صفة هي القدرة، وإذا وصف بأنه عالم فقد وصف بزيادة صفة هي العلم، كما إذا وصف بأنه خالق فقد وصف بزيادة صفة هي الخلق، وإذا وصف بأنه رازق فقد وصف بزيادة صفة هي الرزق، وإذا وصف بأنه محيي فقد وصف بزيادة صفة هي الإحياء، إذ لولا هذه المعاني لاقتصر في أسمائه على ما ينبئ عن وجود الذات فقط ثم صفات الله عز اسمه قسمان: أحدهما: صفات ذاته وهي ما استحقه فيما لم يزل ولا يزال، والآخر: صفات فعله وهي ما استحقه فيما لا يزال دون الأزل

وقال الإمام الغزالي: ﴿ٱلرَّحْمَـٰن ٱلرَّحِيم﴾ اسمان مشتقان من الرحمة، والرحمة تستدعي مرحوما، ولا مرحوم إلا وهو محتاج، والذي ينقضي بسببه حاجة المحتاج من غير قصد وإرادة وعناية بالمحتاج لا يسمى رحيما، والذي يريد قضاء حاجة المحتاج ولا يقضيها فإن كان قادرا على قضائها لم يسم رحيما، إذ لو تمت الإرادة لوفى بها، وإن كان عاجزا فقد يسمى رحيما، باعتبار ما اعتورته من الرقة، ولكنه ناقص، وإنما الرحمة التامة إفاضة الخير على المحتاجين، وإرادته لهم عناية بهم، والرحمة العامة هي التي تتناول المستحق وغير المستحق، ورحمة الله عز وجل تامة وعامة، أما تمامها فمن حيث أنه أراد قضاء حاجات المحتاجين وقضاها، وأما عمومها فمن حيث شمولها المستحق وغير المستحق، وعم الدنيا والآخرة، وتناول الضرورات والحاجات والمزايا الخارجة عنهما، فهو ٱلرَّحِيم حقا

فكما ترى، قد يتصف العبد بشيء من معاني الأسماء، كٱلرَّحِيم والسميع، ولكن إطلاق الاسم عليه على وجه يباين إطلاقه على الله عز وجل، وحظ العبد من معنى هذا الاسم، مباين لمعناه في حق الله عز وجل، وتحصل متعلقات المعنى للعبد على وجه شديد الاختلاف عما يليق بالرب سبحانه، وتبقى معاني الاسم المتعلقة بالعبد في إطار كونه محتاجا عاجزا ناقصا، ومعانيها في حق الرب سبحانه في إطار كونه مستغنيا قادرا كاملا، والأهم من هذا كله، أن صفات المولى عز وجل صفات ألوهية، وربوبية، وصفات ما دونه في إطار العبودية والخضوع، فهيهات أن يشبه هذا ذاك في شيء، وإن اتفق إطلاق الاسم، ولكن الحقيقة متباينة.

وفي البسملة بلاغة منها: التكرار في الوصف ويكون إما لتعظيم الموصوف أو للتأكيد ليتقرر في النفس، أو للإحاطة والاستقصاء لكل معاني الرحمة التي بها يستفتح من يقرأ كلام الله تعالى، ومنها: الحذف وهو ما يتعلق به الباء في بسم وقد مر ذكره والحذف قيل لتخفيف اللفظ، و في حذفه فائدة وذلك أنه موطن ينبغي أن لا يقدم فيه سوى ذكر الله تعالى، فلو ذكر الفعل وهو لا يستغني عن فاعله؛ لم يكن ذكر الله مقدما، وكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى كما تقول في الصلاة الله أكبر، ومعناه من كل شيء، ولكن يحذف ليكون اللفظ في اللسان مطابقا لمقصود القلب وهو أن لا يكون في القلب ذكر إلا الله عز وجل، ومن الحذف أيضا حذف الألف في بسم الله وفي ٱلرَّحْمَـٰن في الخط وذلك لكثرة الاستعمال.

 

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين﴾

عن أبي مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الطهور شطر الايمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها. أخرجه مسلم.

﴿ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ يشمل سائر صفات الكمال التي استحق الله لأجلها حصر الحمد له تعالى بناء على ما تدل عليه جملة  ﴿ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ من اختصاص جنس الحمد به تعالى واستحقاقه لذلك الاختصاص 

قال ابن القيم رحمه الله: في ذكر هذه الأسماء بعد الحمد، وإيقاع الحمد على مضمونها ومعناها ما يدل على أنه محمود في إلهيته، محمود في ربوبيته، محمود في رحمانيته، محمود في ملكه، وأنه إله محمود، ورب محمود، ورحمن محمود، وملك محمود، فله بذلك جميع أقسام الكمال، كمال من هذا الاسم بمفرده، وكمال من اقتران أحدهما بالآخر.

وقول ابن القيم رحمه الله أعلاه كلام متين، إذ أن الله كما بينا من قبل تعني المألوه بحق، أي المعبود بحق، فعند قولك: ﴿الحَمْدُ لله﴾، لما يستحقه من الحمد في مقام الألوهية، أي إخلاص العبادة له سبحانه، وكل فعل تفعله تقصد به وجهه الكريم مخلصا له الدين، ثم إنه سبحانه وتعالى أتبعها بوصف: ﴿رَبِّ العَالَمِين﴾، ليدخل في الحمد أيضا مقام الربوبية، وما أنعم الله به على الخلائق من رزق وإيجاد من عدم، وحياة ونعم وآلاء لا تحصى، لا شيء في كونه يخرج عن مراده الفعلي، فيكون الله تبارك وتعالى مستحقا الحمد على مقام الألوهية وعلى مقام الربوبية، وأيضا يعطف عليها سبحانه مقام الرحمانية، يستحق الحمد عليها سبحانه وتعالى، لآلائه التي لا تحصى مما يرحم بها خلقه وعباده، حتى الكافر منهم والفاسق والمحسن، وكل الخلق لم يصل إلى أن يعبد الله حق عبادته شكرا على نعمه أو بعضها، فاستحق الحمد على رحمته بأنه لم يأخذهم بذنوبهم، وأنه يرزقهم وهم يعصونه، وكذلك عطف الحمد على مقام الملك، ويَدخلُ فيه بوصفه ملكا وكذلك أنه مالك، مستحقا الحمد، سواء مقام الملك لما في الدنيا (من مقام ﴿رَبِّ العَالَمِين﴾ استفدنا تصرفه سبحانه وتعالى بما في هذه الحياة الدنيا ملكا مقتدرا) ولما في الآخرة: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، فاستحق الحمد على عدله المطلق، في الدنيا والآخرة، فهو ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ يتصرف فيه ليحاسب المكلفين على ما فعلوه في حياتهم الدنيا، فلا يدع المجرم يفلت من العقاب، ولا يترك المحسن من غير ثواب، فيستحق الحمد على عدله، ويستحق الحمد على أنه جعل للمكلفين يوما يُرجعون فيه إليه ليحاسبهم، فلا لم يترك الأرض تتحكم فيها شريعة الغاب، فيأكل القوي حق الضعيف، دون أن يحاسب على سوء فعاله، والحمد لله على رحمته التي وسعت كل شيء، فالحمد لله على مقام الألوهية، والحمد لله على مقام الربوبية، والحمد لله على مقام الرحمانية، والحمد لله على مقام الملك والعدل.

ثم إنه إذ يعطف الربوبية على الألوهية، فإنه يطمئن عباده أن عطاء ربوبيته لا ينقطع إن أساؤوا في ما يستوجب الحمد من مقام ألوهيته، فرزقهم مستمر، ونفعه لهم مستمر، وتسخيره ما في الكون لهم مستمر إلا أن يشاء سبحانه وتعالى، فلا يكون مقتصرا على أن يُحمد على مقام الألوهية وحده سبحانه وتعالى، فيختص بربوبيته فقط عباده المؤمنين دون غيرهم، بل الحمد له سبحانه بوصفه ربا للعالمين أيضا، فهو رب من يحمده كإله، ورب من لم يحمده كمعبود بحق.

ولا يكون الحمد الا للحي العاقل.

وهذا أشهر ما فرق بينه وبين المدح فقد تمدح جمادا ولكن لا تحمده، وقد ثبت أن المدح أعم من الحمد، فالمدح قد يكون قبل الاحسان وبعده أما الحمد فلا يكون الا بعد الاحسان؛ فالحمد يكون لما هو حاصل من المحاسن في الصفات أو الفعل، فلا يحمد من ليس في صفاته ما يستحق الحمد، أما المدح فقد يكون قبل ذلك؛ فقد تمدح إنسانا ولم يفعل شيئا من المحاسن والجميل، ولذا كان المدح منهياً عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “احثوا التراب في وجه المداحين” بخلاف الحمد فإنه مأمور به فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من لم يحمد الناس لم يحمد الله” 

وبذا علمنا من قوله: ﴿الحمد لله﴾ أن الله حي له الصفات الحسنى والفعل الجميل فحمدناه على صفاته وعلى فعله وانعامه ولو قال المدح لله لم يفد شيئا من ذلك، فكان اختيار الحمد اولى من اختيار المدح.

الحمد هو الثناء والنداء على الجميل من نعمة وغيرها، مع المحبة والاجلال؛ تقول: حمدت الرجل على إنعامه، وحمدته على حسبه وشجاعته، وأمّا الشكر فعلى النعمة خاصة وهو بالقلب واللسان والجوارح قال:
أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ منِّى ثلاثةً يَدِي ولِسَانِى والضَّمِيرَ الـمُحَجَّبَا

وما كان شكرى وافيا بنوالكم ولكنني حاولت في الجهد مذهبا
أي لم يكن تعظيمي إياكم وافيا بحق عطائكم، ولكنني أردت من الاجتهاد في تعظيمكم مذهبا، وبينه بقوله: إن نعمتكم على إفادتكم من يدي ولساني وجناني، فهي وأعمالها لكم، قال السيد الشريف: هو استشهاد معنوي على أن الشكر يطلق على أفعال الموارد الثلاثة، وبيان أنه جعلها جزاء للنعمة، وكل ما هو جزاء للنعمة عرفا يطلق عليه الشكر لغة، فكأنه قال: كثرت نعمتكم عندي فوجب على استيفاء أنواع الشكر لكم، وبالغ في ذلك حتى جعل مواردها ملكا لهم.

والحمد باللسان وحده، فهو إحدى شعب الشكر، ومنه قوله عليه السلام: «الحمد رأس الشكر، ما شكر اللَّه عبد لم يحمده» وإنما جعله رأس الشكر لأنّ ذكر النعمة باللسان والثناء على موليها، أشيع لها وأدلّ على مكانها من الاعتقاد وآداب الجوارح، والحمد نقيضه الذمّ، والشكر نقيضه الكفران،

جاء في لسان العرب “والحمد والشكر متقاربان والحمد أعمهما لأنك تحمد الانسان على صفاته الذاتية وعلى عطائه ولا تشكره على صفاته. فكان اختيار الحمد أولى أيضا من الشكر لأنه أعم فإنك تثني عليه بنعمه الواصلة اليك وإلى الخلق جميعا وتثني عليه بصفاته الحسنى الذاتية وإن لم يتعلق شيئ منها بك. فكان اختيار الحمد أولى من المدح والشكر”.

وقيل: الحمد والشكر بمعنى واحد أو الحمد أعم والشكر ثناء على الله تعالى بأفعاله، والحمد ثناء بأوصافه، ثلاثة أقوال أصحها أنه أعم فالحامد قسمان: شاكر ومُثنٍ بالصفات. ومعناه فى اللغة: الثناء بالجميل على قصد التعظيم والتبجيل، وفى العرف: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعما. والشكر فى اللغة: فعل يشعر بتعظيم المنعم، فهو مرادف للحمد العرفي،

وقيل: الحمد أعم لأن فيه معنى الشكر ومعنى المدح، وهو أعم من الشكر، لأن الحمد يوضع موضع الشكر ولا يوضع الشكر موضع الحمد. 

ورُوي عن ابن عباس أنه قال: الحمد لله كلمة كل شاكر، وإن آدم عليه السلام قال حين عطس: الحمد لله، وقال الله لنوح عليه السلام: ﴿فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [المؤمنون: 28] وقال إبراهيم عليه السلام: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ [إبراهيم: 3]. وقال في قصة داود وسليمان: ﴿وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النمل: 15]. وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً﴾ [الإسراء: 111]. وقال أهل الجنة: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ [فاطر: 34]. ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين﴾ [يونس: 10]. فهي كلمة كل شاكر.
والصحيح أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان. وعلى هذا الحد قال علماؤنا: الحمد أعم من الشكر، لأن الحمد يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر، والجزاء مخصوص إنما يكون مكافأة لمن أولاك معروفا فصار الحمد أعم في الآية لأنه يزيد على الشكر، ويذكر الحمد بمعنى الرضا يقال: بلوته فحمدته، أي رضيته.

والحمد عبارة عن صفة القلب وهي اعتقاد كون ذلك المحمود متفضلا منعما مستحقا للتعظيم والاجلال. 

فاذا تلفظ الانسان بقوله: “أحمد الله” مع أنه كان قلبه غافلا عن معنى التعظيم اللائق بجلال الله كان كاذبا لانه أخبر عن نفسه بكونه حامدا مع أنه ليس كذلك، أما إذا قال “الحمد لله” سواء كان غافلا أو مستحضرا لمعنى التعظيم فإنه يكون صادقا لان معناه: أن الحمد حق لله وملكه، وهذا المعنى حاصل سواء كان العبد مشتغلا بمعنى التعظيم والاجلال أو لم يكن، فثبت أن قوله “الحمد لله” أولى من قوله أحمد الله أو من نحمد الله. ونظيره قولنا “لا اله الا الله” فانه لا يدخل في التكذيب بخلاف قولنا “أشهد أن لا اله الا الله” لانه قد يكون كاذبا في قوله “أشهد” ولهذا قال تعالى في تكذيب المنافقين: ﴿والله يشهد إن المنافقين لكاذبون﴾ (المنافقون، آية 1)

ثم إن (الحمد لله) قد كُرِّرَت في أربع سُوَرٍ من القرآن، كل واحدة منها ناظرة الى نعمة من النعم الاساسية التي هي: النشأة الاولى، والبقاء فيها؛ والنشأة الاُخرى، والبقاء بعدها.

قال ابو اسحق الاسفراينى رحمه الله: في سورة “الأنعام ” كل قواعد التوحيد. ولما كانت نعمه تعالى مما تفوت الحصر إلاّ انها ترجع اجمالاً الى إيجاد وإبقاء في النشأة الاولى، وإيجاد وإبقاء في النشأة الآخرة. وقد أشير في “الفاتحة ” “الكهف ” إلى الابقاء الاول، وفي “سبأ ” إلى الايجاد الثانى، وفي “فاطر ” إلى الابقاء الثانى، فلهذا ابتدأت هذه السور الخمس بالتحميد

﴿لله﴾ اللام: للمُلك وشَبَهِهِ، أي للاختصاص، وقال ابن عاشور: وليست لام التعريف (في ﴿الحمد﴾) للاستغراق لما علمت أنها لام الجنس ولذلك قال صاحب ( الكشاف ): ( والاستغراق الذي توهمه كثير من الناس وهم منهم ) غير أن معنى الاستغراق حاصل هنا بالمثال لأن الحكم باختصاص جنس الحمد به تعالى لوجود لام تعريف الجنس في قوله: ﴿الحمد﴾ ولام الاختصاص في قوله: ﴿لله﴾ يستلزم انحصار أفراد الحمد في التعلق باسم الله تعالى لأنه إذا اختص الجنسُ اختصت الأفراد؛ إذ لو تحقق فرد من أفراد الحمد لغير الله تعالى لتحقق الجنس في ضمنه فلا يتم معنى اختصاص الجنس المستفاد من لام الاختصاص الداخلة على اسم الجلالة ﴿الحمد﴾ مبتدأ، و﴿للّه﴾ خبر، وأصله النصب، وقرئ به، والأصل: أحمد اللّه حمدا، وإنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته، دون تجدده وحدوثه، وفيه تعليم اللفظ مع تعريض الاستغناء. أي: الحمد للّه وإن لم تحمدوه، ولو قال (أحمد اللّه) لما أفاد هذا المعنى، وهو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة لا تكاد تذكر معها، والتعريف للجنس (في: ﴿الحمد﴾) أي: للحقيقة من حيث هي، من غير قيد شيوعها، ومعناه: الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد أن الحمد ما هو؟ أو للاستغراق إذ الحمد فى الحقيقة كلّه للّه إذ ما من خير إلا وهو موليه بواسطة وبغير واسطة. كما قال: ﴿وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ وقيل: للعهد، والمعهود حمده تعالى نفسه فى أزله.
وقال شقيق بن إبراهيم في تفسير ﴿الحمد لله﴾ قال: هو على ثلاثة أوجه: أولها إذا أعطاك الله شيئا تعرف من أعطاك، والثاني أن ترضى بما أعطاك، والثالث ما دامت قوته في جسدك ألا تعصيه، فهذه شرائط الحمد.

والعجيب أنك حين تشكر بشرا على جميل فعله تظل ساعات وساعات.. تعد كلمات الشكر والثناء، وتحذف وتضيف وتأخذ رأي الناس. حتى تصل الى قصيدة أو خطاب مليء بالثناء والشكر. ولكن الله سبحانه وتعالى جلت قدرته وعظمته نعمه لا تعد ولا تحصى، علمنا أن نشكره في كلمتين اثنتين هما: الحمد لله..
قال ابن فارس: (الرب) الراء والباء يدلُّ على أُصولٍ. فالأول إصلاح الشيءِ والقيامُ عليه. فالرّبُّ: المالكُ، والخالقُ، والصَّاحب. والرّبُّ: المُصْلِح للشّيء. يقال رَبَّ فلانٌ ضَيعتَه، إذا قام على إصلاحها. وهذا سقاء مربُوبٌ بالرُّبِّ. والرُّبّ للعِنَب وغيرِه؛ لأنّه يُرَبُّ به الشيء. وفَرَسٌ مربوب. قال سلامة:

ليسَ بأسْفَى ولا أقْنَى ولا سَغِلٍ *** يُسْقى دَواءَ قَفِيِّ السَّكْنِ مَرْبوبِوالرّبُّ: الـمُصْلِح للشّيء. والله جلّ ثناؤُه الرَّبٌّ؛ لأنه مصلحُ أحوالِ خَلْقه. والرِّبِّيُّ: العارف بالرَّبّ. وربَبْتُ الصَّبيَّ أرُبُّه، وربَّبْتُه أربِّبُه. والرَّبيبة الحاضِنة.

و﴿رب﴾ نعت ﴿للّه﴾، وهو فى الأصل: مصدر بمعنى التربية، وهو تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا، وذلك يجمع النعم كلها، ثم وصف به للمبالغة كالصوم والعدل.
وقيل: هو وصف من ربّه يربّه، وأصله: ربب ثم أدغم، سمى به المالك لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه، ولا يطلق على غيره تعالى إلا بقيد كقوله تعالى: ﴿ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ﴾. قال ابن جزىّ: ومعانيه أربعة: الإله والسيد والمالك والمصلح، وكلها تصلح فى ﴿رَبِّ العَالَمِين﴾، إلا أن الأرجح فى معناه: الإله لاختصاصه باللّه تعالى. وقال أبو حيان الأندلسي: الرب: السيد والمالك والثابت والمعبود والمصلح وزاد بعضهم بمعنى الصاحب مستدلا بقوله: 

فدنا له رب الكلاب بكفه بيض رهاف ريشهن مقزع.

الرب المالك ومنه قول صفوان لأبي سفيان: لأن يَــرُبّـَنـي رجل من قريش أحب إليّ من أن يربني رجل من هوازن.
تقول ربه يربه رباً فهو رب، ويجوز أن يكون وصفاً بالمصدر للمبالغة كما وصف بالعدل.
قال الهروي وغيره: يقال لمن قام بإصلاح شيء وإتمامه: قد ربه يربه فهو رب له وراب، ومنه سُمي الربانيون لقيامهم بالكتب. وفي الحديث: “هل لك من نعمة تربُّها عليه” أي تقوم بها وتصلحها. والرب: المعبود ومنه قول الشاعر:
أربٌّ يبول الثعلبان برأسه… لقد ذل من بالت عليه الثعالب
ويقال على التكثير: رباه ورببه وربته، حكاه النحاس. وفي الصحاح: ورب فلان ولده يربه ربا ورببه وترببه بمعنىً، أي رباه. والمربوب: المربى.

متى أدخلت الألف واللام على “رب” اختص الله تعالى به، لأنها للعهد وإن حذفنا منه صار مشتركا بين الله وبين عباده، فيقال: الله رب العباد وزيد رب الدار.

والتصرف للإصلاح والتربية يشمل العالمين – أي جميع الخلائق – واللّه – سبحانه – لم يخلق الكون ثم يتركه هملا، إنما هو يتصرف فيه بالإصلاح ويرعاه ويربيه، وكل العوالم والخلائق تُحْفَظُ وتُتَعَهَّدُ برعاية اللّه رَبِّ العَالَمِين.

والربوبية المطلقة هي مفرق الطريق بين وضوح التوحيد الكامل الشامل، والغبش الذي ينشأ من عدم وضوح هذه الحقيقة بصورتها القاطعة. ، وقد أنبأنا القرآن الكريم عن أقوام يشركون مع الله في ربوبيته غَيْرَهُ، فقال عز من قائل: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)﴾ العنكبوت، فهؤلاء اتخذوا مع الله أربابا، اعتقدوا أنهم يقربوهم إلى الله زلفى، وانهم ينفعونهم ويضرونهم، فلم تكن حقيقة الربوبية عندهم مطلقة ناصعة، وحيث ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)﴾ النساء، فهؤلاء ما قدروا الله حق قدره، وحبطت أعمالهم، ولم ينفعهم قولهم أن الله هو الرازق والخالق في شيء، إذ لا بد من التوحيد الخالص من الشرك، والتصور الواضح الصحيح للرب سبحانه وتعالى، حتى تتحقق حقيقة التوحيد.

وقد صدق الشهيد سيد قطب رحمه الله إذ اعتبر الربوبية المطلقة مفرق الطرق بين وضوح التوحيد الشامل وبين من على قلبه في تصوره لهذه الربوبية غبش، وتصورات شركية، وركام من الباطل يحول بينه وبين التصور الصحيح.

قال رحمه الله معقبا: “فإطلاق الربوبية في هذه السورة، وشمول هذه الربوبية للعالمين جميعا، هي مفرق الطريق بين النظام والفوضى في العقيدة، لتتجه العوالم كلها إلى رب واحد، تقر له بالسيادة المطلقة، وتنفض عن كاهلها زحمة الأرباب المتفرقة، وعنت الحيرة كذلك بين شتى الأرباب.. ثم ليطمئن ضمير هذه العوالم إلى رعاية اللّه الدائمة وربوبيته القائمة. وإلى أن هذه الرعاية لا تنقطع أبدا ولا تفتر ولا تغيب”

فما ﴿رَبِّ العَالَمِينَ﴾ إذن؟

وقفنا بين يدي المعنى الإجمالي، واللغوي لكلمة الرب، فما هي حقيقة احتياج العالمين لرب، يدبر شئونهم بالليل والنهار، ويصرف أمر هذا الكون يقول سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)﴾ 

فالرب سبحانه هو الذي خلق السموات والأرض، وقدر فيها أقواتها، وأرزاق الخلائق، ينزل المطر، وينبت الزرع، ويخرج الخبأ من الأرض، ويحيي ويميت، ويشفي، وينتقم، وما من خير إلا إلى الرب مرجعه، منه نزل، وبرحمته اتصل، أنزل أفضل الشرائع لتقوم حياة الناس بالقسط، وحرم على نفسه الظلم، وجعله محرما في السموات والأرض، يجير ولا يجار عليه، فاستحق على كل نعمه وآلائه الحمد كله، حتى أن الرسول عليه سلام الله وصفه بأنه: “لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك”، رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد.

قوله تعالى: ﴿الْعَالَمِينَ﴾ اختلف أهل التأويل في “العالمين” اختلافا كثيراً، فقال قتادة: العالمون جمع عالم وهو كل موجود سوى الله تعالى ولا واحد له من لفظه مثل رهط وقوم. وقيل: أهل كل زمان عالم قاله الحسين بن الفضل، لقوله تعالى: ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 165] أي من الناس. 

وقال ابن عباس: العالمون الجن والإنس، دليله قوله تعالى: ﴿ليكون للعالمين نذيرا﴾ [الفرقان: 1] ولم يكن نذيرا للبهائم. وقال الفراء وأبو عبيدة: العالم عبارة عمن يعقل ولا يقال للبهائم: عالم، لأن هذا الجمع إنما هو جمع من يعقل خاصة، وقال ابن عباس: كل ذي روح دب على وجه الأرض. 

قلت (القرطبي): والقول الأول أصح هذه الأقوال، (أي العالمون: جمع عالم وهو كل موجود سوى الله تعالى) لأنه شامل لكل مخلوق وموجود دليله قوله تعالى: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العَالَمِين. قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ [الشعراء: 23] ثم هو مأخوذ من العَلَمِ والعلامة لأنه يدل على موجِدِهِ. كذا قال الزجاج قال: العالم كل ما خلقه الله في الدنيا والآخرة. وقال الخليل: العَلَمُ والعلامة والـمَـعْلَم: ما دل على الشيء، فالعالم دال على أن له خالقا ومدبرا وهذا واضح. .

قال ابن فارس: (علم) العين واللام والميم أصلٌ صحيح واحد، يدلُّ على أثَرٍ بالشيء يتميَّزُ به عن غيره، من ذلك العَلامة، ومن الباب العالَمُون، وذلك أنّ كلَّ جنسٍ من الخَلْق فهو في نفسه مَعْلَم وعَلَم. وقال قوم: العالَم سمِّي لاجتماعه. قال الله تعالى: ﴿وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِين﴾ [الأنعام 45، الصافات 182]، قالوا: الخلائق أجمعون. وأنشدوا: ما إنْ رأيتُ ولا سمعـ  *** ـتُ بمثلِهمْ في العالَمِينا

وقال في العالَم:        * فخِنْدِفٌ هامةُ هذا العَالَمِ *

والذي قاله القائلُ في أنّ في ذلك ما يدلُّ على الجمع والاجتماع فليس ببعيد، وذلك أنّهم يسمون العَيْلم، فيقال إنّه البحر، ويقال إنّه البئر الكثيرةُ الماء.
و(ال) في العالمين للاستغراق، وما نراه هو أن العالمين جمع عالم، والعالم هو كل موجود سوى الله تعالى، والعالم يُجمع على العوالم وعلى العالمين، فرَبُّ العَالَمِين معناه رب العوالم، والعالمون جمع مذكر سالم فإن قيل هذا الجمع يكون للعقلاء فصار رب العقلاء الذين هم عالم الإنس وعالم الجن، وعالم الملائكة، وقد يقال أيضاً: لكن اختيار العالمين على العوالم لأمر بلاغي فيه دلالة على خصوص المكلفين وأولي العقل (لا تشمل غير العقلاء) بدليل قوله تعالى ﴿تبارك الذي نزل على عبده الفرقان ليكون للعالمين نذيرا﴾، (الفرقان آية 1) ومن المؤكد انه ليس نذيرا للبهائم والجماد، وبهذا استدلوا على ان المقصود بالعالمين أولي العقل واولي العلم أو المكلفين. 

وهو ما لا نرجحه هنا، إذ أن بعض العلماء يقولون: “جمع المذكر السالم جمع العاقلين ويطلق إذا كان هناك اختلاط بين العقلاء وغيرهم أيضا”، لكن من باب أهمية العقلاء على غيرهم -لأن العقل مناط التكليف-، كانت صيغة الجمع على المذكر السالم هي  المختارة، 

وهذا ما نميل إليه، إذ أن في ذكره بصيغة جمع المذكر السالم، للتنبيه على معنى العقلاء، وشموله للعقلاء وغيرهم، ما يناسب سياق السورة إن نظرنا إليها من زاوية يدور مدارها في المكلفين إذ فيها طلب الهداية واظهار العبودية لله وطلب الاستعانة ومثل هذا خاص بأولي العقل والعلم لذا كان من المناسب اختيار العالمين على غيرها من المفردات او الكلمات، لتكون في العقلاء، من باب التكليف، والهداية والاستعانة وغيرها مما يناسب العقلاء، ولكن يعكر على هذا أيضا النظر إلى سياق السورة من زاوية أخرى يظهر منها أنه في غيرهم أيضا من مخلوقات الله تعالى التي هي كلها مربوبة لله تعالى، والتي يستحق سبحانه وتعالى الحمد لما أنعم عليها من نعم، وتدخل في عموم رحمته سبحانه وتعالى، ويدبر أمرها من باب الربوبية، كالبهائم تحيا بنعم الله تعالى، لذا فلا تقتصر لفظة العالمين هنا على العقلاء دون غيرهم، والله أعلم.

وقد ورد في آخر الفاتحة ذكر المغضوب عليهم وهم اليهود، و﴿العالمين﴾ رد على اليهود الذين ادعوا ان الله تعالى هو رب اليهود فقط فجاءت ﴿رَبِّ العَالَمِين﴾ لتشمل كل العالمين لا بعضهم.

 

﴿ٱلرَّحْمَـٰن ٱلرَّحِيم﴾

و ﴿الرَّحْمَـانِ ٱلرَّحِيم﴾ في البسملة لها معنى غير ﴿الرَّحْمَـانِ ٱلرَّحِيم﴾ في الفاتحة، ففي البسملة هي تذكرنا برحمة الله سبحانه وتعالى وغفرانه حتى لا نستحي ولا نهاب أن نستعين باسم الله ان كنا قد فعلنا معصية.. فالله سبحانه وتعالى يريدنا أن نستعين باسمه دائما في كل أعمالنا، فإذا سقط واحد منا في معصية، قال: كيف أستعين باسم الله، وقد عصيته؟ نقول له ادخل عليه سبحانه وتعالى من باب الرحمة.. فيغفر لك وتستعين به فيجيبك.
ولكن ﴿ٱلرَّحْمَـٰن ٱلرَّحِيم﴾ في الفاتحة مقترنة برَبِّ العَالَمِين، الذي أوجدك من عدم، وأمدك بنعم لا تعد ولا تحصى. فأنت تحمده على هذه النعم التي أخذتها برحمة الله سبحانه وتعالى في ربوبيته، ذلك أن الربوبية ليس فيها من القسوة بقدر ما فيها من رحمة، كيف وقد جاءت صفة الربوبية في الفاتحة بين ٱلرَّحْمَـٰن ٱلرَّحِيم في البسملة، وٱلرَّحْمَـٰن ٱلرَّحِيم في متن السورة؟
والله سبحانه وتعالى ربٌ للمؤمن والكافر، فهو الذي استدعاهم جميعا الى الوجود، ولذلك فإنه يعطيهم من النعم برحمته، وليس بما يستحقون، فالشمس تشرق على المؤمن والكافر، ولا تحجب أشعتها عن الكافر وتعطيها للمؤمن فقط، والمطر ينزل على من يعبدون الله، ومن يعبدون أوثانا من دون الله، والهواء يتنفسه من قال لا إله إلا الله ومن لم يقلها، فهذا عطاء الربوبية في الحياة الدنيا، وأما عطاء الألوهية، فإن من يعبد الله مخلصا له الدين سيفوز في الآخرة، ومن يشرك به يحبط عمله، وهو في الآخرة من الخاسرين.

قال سيد قطب: ﴿ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ﴾: هذه الصفة التي تستغرق كل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها تتكرر هنا في صُلب السورة، في آية مستقلة، لتؤكد السمة البارزة في تلك الربوبية الشاملة ولتثبت قوائم الصلة الدائمة بين الرب ومربوبيه. وبين الخالق ومخلوقاته.. إنها صلة الرحمة والرعاية التي تستجيش الحمد والثناء، إنها الصلة التي تقوم على الطمأنينة وتنبض بالمودة، فالحمد هو الاستجابة الفطرية للرحمة الندية.

﴿ٱلرَّحْمَـٰن ٱلرَّحِيم﴾، وهما مع قوله ﴿رَبِّ العَالَمِين﴾ صفات مدح لأن ما قبلهما (الله) عَلَمٌ لم يعرض في التسمية به اشتراك فيخصص، وبدأ أولا بالوصف بالربوبية فإن كان الرب بمعنى السيد أو بمعنى المالك أو بمعنى المعبود كان صفة فعل للموصوف بها التصريف في المسود والمملوك والعابد بما أراد من الخير والشر، فناسب ذلك الوصف بالرحمانية وٱلرَّحِيمية لينبسط أمل العبد في العفو إن زل ويقوى رجاؤه إن هفا، ولا يصح أن يكون الرب بمعنى الثابت ولا بمعنى الصاحب (وهذه من معانيها اللغوية) لامتناع إضافته إلى العالمين وإن كان بمعنى المصلح كان الوصف بالرحمة مشعرا بقلة الإصلاح لأن الحامل للشخص على إصلاح حال الشخص رحمته له، ومضمون الجملة والوصف إن من كان موصوفا بالربوبية والرحمة للمربوبين كان مستحقا للحمد.

ولو تأملنا لوجدنا أن ﴿ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ﴾ في البسملة، ذكر فيها المنعِمُ ولم يُذكَرْ فيها الـمُنْعَمُ عليه، بينما في السورة ذكر الله اسم ﴿ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ﴾ بعد قوله: ﴿رَبِّ العَالَمِين﴾، فهو رحمن بالعالمين رحيم بهم.

ونظير ذلك ذكره سبحانه وتعالى للصراط في الفاتحة ابتداء بمعزل عمن سيسير عليه، أو من سيتخذ منهجا مستقيما يسير عليه في الحياة الدنيا، فقال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، ثم أتبعه بذكره مقترنا بمن سيمشون عليه، ويتبعون الهدى في مناهج الحياة: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ﴾.

﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾

وقرأ بعض القراء ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ من الملك الذي هو عبارة عن السلطان القاهر والاستيلاء الباهر والغلبة التامة والقدرة على التصرف الكلي في أمور العامة بالأمر والنهي، والثواب والعقاب، والجزاء والحساب، وفض الخصومات، وجبر العثرات، وقرئت أيضا على ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾،  وكلاهما صحيح متواتر في القراءات السبع.

ومالك مأخوذ من الـمُلْك، كما قال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ [مريم: 40] وقال: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ﴾ [الناس: 1، 2] وملك: مأخوذ من الْمُلْكِ كما قال تعالى: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: 16] وقال: ﴿قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ﴾ [الأنعام: 73] وقال: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا﴾ [الفرقان: 26].

قال ابن فارس: الميم واللام والكاف أصلٌ صحيح يدلُّ على قوّةٍ في الشيء وصحة. يقال: أملَكَ عجِينَه: قوَّى عَجنَه وشَدَّه. وملّكتُ الشَّيءَ: قوّيتُه قال:

فملّكَ باللِّيط الذي فوق قِشرها *** كَغِرقئِ بيض كنَّه القيضُ من عَلِوالأصل هذا. ثم قيلَ مَلَكَ الإنسانُ الشَّيء يملِكُه مَلْكاً. والاسم الملْك؛ لأنَّ يدَه فيه قويّةٌ صحيحة. فالمِلْك: ما مُلِك من مالٍ. والمملوك: العبْد.
والمالك والملك، قال اللغويون: وهما راجعان إلى الملك وهو الربط ومنه ملك العجين، والملك هو القهر والتسليط على من تتأتى منه الطاعة ويكون ذلك باستحقاق وبغير استحقاق. .

 اختلف العلماء أيهما أبلغ: ملك أو مالك؟ والقراءتان مرويتان عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر. ذكرهما الترمذي فقيل: “ملك” أعم وأبلغ من “مالك” إذ كل ملك مالك وليس كل مالك ملكا، ولأن الملك نافذ على المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك قال أبو عبيدة والمبرد. وقيل: “مالك” أبلغ لأنه يكون مالكا للناس وغيرهم فالمالك أبلغ تصرفا وأعظم إذ إليه إجراء قوانين الشرع، ثم عنده زيادة التملك.
وقال أبو حاتم: إن مالكا أبلغ في مدح الخالق من “ملك” و”ملك” أبلغ في مدح المخلوقين من مالك، والفرق بينهما أن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك، وإذا كان الله تعالى مالكا كان ملكا، واختار هذا القول القاضي أبو بكر بن العربي ونتنبه إلى أن المالك قد يكون ملكا وقد لا يكون والملك قد يكون مالكا وقد لا يكون.

قال ابن فارس: (الدين) الدال والياء والنون أصلٌ واحد إليه يرجع فروعُه كلُّها. وهو جنسٌ من الانقياد والذُّل. فالدِّين: الطاعة، يقال دان لـه يَدِين دِيناً، إذا أصْحَبَ وانقاد وطَاعَ. وقومٌ دِينٌ، أي مُطِيعون منقادون. قال الشاعر:

  * وكانَ النّاس إلاّ نحنُ دِينا *

والـمَدِينة كأنّها مَفْعلة، سمّيت بذلك لأنّها تقام فيها طاعةُ ذَوِي الأمر، فأمَّا قوله جلّ ثناؤُه: ﴿ما كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الـمَلِكِ﴾ [يوسف 76]، فيقال: في طاعته، ويقال في حكمه. ومنه: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة 4]، أي يوم الحكم. وقال قومٌ: الحساب والجزاء. وأيُّ ذلك كان فهو أمرٌ يُنقاد له. وقال أبو زَيد: دِينَ الرّجُل يُدان، إذا حُمِل عليه ما يَكره. فيوم الدين هو يوم الانقياد لله تعالى، ويوم تظهر للخلائق كلها حقيقة أن الله تعالى هو الملك الديان، السائس، ساس الناس بأوامره ونواهيه، فمن أطاعه أفلح ومن عصاه دانه، وهو يوم الحساب وهو يوم الجزاء وهو يوم الدين نفسه يوم العقيدة يوم بروز وظهور وانتصار العقيدة الحقة، لذلك نقول ليس هناك لفظة تغني عن لفظة الدين.

والاعتقاد بيوم الدين كلية من كليات العقيدة الإسلامية ذات قيمة في تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالم آخر بعد عالم الأرض فلا تستبد بهم ضرورات الأرض. وعندئذ يملكون الاستعلاء على هذه الضرورات. ولا يستبد بهم القلق على تحقيق جزاء سعيهم في عمرهم القصير المحدود، وفي مجال الأرض المحصور. وعندئذ يملكون العمل لوجه اللّه وانتظار الجزاء حيث يقدره اللّه، في الأرض أو في الدار الآخرة سواء، في طمأنينة للّه، وفي ثقة بالخير، وفي إصرار على الحق، وفي سعة وسماحة ويقين.. ومن ثم فإن هذه الكلية تعد مفرق الطريق بين العبودية للنزوات والرغائب، والطلاقة الإنسانية اللائقة ببني الإنسان. بين الخضوع لتصورات الأرض وقيمها وموازينها والتعلق بالقيم الربانية والاستعلاء على منطق الجاهلية. مفرق الطريق بين الإنسانية في حقيقتها العليا التي أرادها اللّه الرب لعباده، والصور المشوهة المنحرفة التي لم يقدر لها الكمال.

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾

معنى العبادة:

الْعِبَادَةُ فِي اللُّغَةِ: الْخُضُوعُ، وَالتَّذَلُّلُ لِلْغَيْرِ لِقَصْدِ تَعْظِيمِهِ وَلَا يَجُوزُ فِعْلُ ذَلِكَ إِلَّا لِلَّهِ، وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الطَّاعَةِ.

قال ابن منظور: العبدُ: الإنسانُ، حرًّا كان أو رقيقًا يُذهب ذلك إلى أنه مربوب لباريه عز وجلَّ.. يقال فلان عبد بيِّن العبودية،  وأصل العبودية: الخضوع والتذلل.. والتعبد: التنسُّك، والعبادة الطاعة، قال ابن الأنباري: فلان عابد: هو الخاضع لربه المستسلم المنقاد لأمره ” ()

وقال الفيروزأبادي “… والعبادة الطاعة ” ()، وعلى هذا فتعريف العبادة في لغة العرب: الذلُّ والخضوع المستلزِم طاعة المعبود أمرًا ونهيًا.. ولذا سُمِّي الرقيق «عبدًا» يذل ويخضع لسيده أمرًا ونهيًا فيما يختص بشئون الحياة. 

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: ذَكَرُوا لَهَا عِدَّةَ تَعْرِيفَاتٍ مُتَقَارِبَةٍ: مِنْهَا:
( 1 ) – هِيَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ، وَالتَّذَلُّلُ لَهُ.
( 2 ) – هِيَ الْمُكَلَّفُ عَلَى خِلَافِ هَوَى نَفْسِهِ تَعْظِيمًا لِرَبِّهِ.
( 3 ) – هِيَ فِعْلٌ لَا يُرَادُ بِهِ إِلَّا تَعْظِيمَ اللَّهِ بِأَمْرِهِ.
( 4 ) – هِيَ اسْمٌ لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَالْأَفْعَالِ، وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.

(5) عرفها ابن كثير رحمه الله بأنها: «كمال المحبة لله مع كمال الخضوع لله مع كمال الخوف من الله»

حقيقة العبادة

وحقيقة العبادة: هي غاية التقديس للمعبود سبحانه وتعالى، وهي أعظم مظهر من مظاهر الشكر التي يجب أن يقوم بها المخلوق لمن أنعم عليه بنعمة الخلق والإيجاد، وتتم باستسلام القلب والجوارح لله، عملا بما أمر، من أفعال يقصد بها وجه الله تعالى، وحده لا شريك له، على الكيفية التي أمر بها المعبود عز وجل، حبًا وخضوعًا له، وخوفًا من عقابه، فهو المستحقُّ للعبادة وحده دون ما سواه. 

أحكام العبادات توقيفية

وأحكام العبادات توقيفية من الله عز وجل يؤديها المرء بالكيفية التي أمر الله تعالى بها، إذ أن العبادات ما هي إلا نظام ينظم علاقة المخلوق بالخالق، أي علاقة العابد بالمعبود، وهذا النظام لا يمكن أن يكون من المخلوق مطلقاً لأن المخلوق لا يدرك حقيقة الخالق حتى ينظم علاقته به، ولا يدرك كنهه حتى يعرف كيف يعبده، فيستحيل على الإنسان أن يضع بعقله نظاماً للعبادات بينه وبين الخالق ينظم علاقته بالخالق أي ينظم تقديسه للخالق، لأن وضع هذا التنظيم يستوجب إدراك حقيقة الخالق وهو محال، فصار محالاً أن يضع الإنسان بعقله أحكام العبادات، ومن هنا كان لابد أن يكون نظام العبادات آتياً من الخالق لا من المخلوق، أي آتياً من المعبود لا من العابد، فكان لابد أن تأتي أحكام العبادات من الله وحده، وليس من الإنسان، ولا دخل للإنسان في أي شيء منها مهما قل، لأنه يستحيل عليه أن يضعه، وهذا النظام لابد أن يبلغه الخالق للمخلوق، ليقوم بعبادة الإله بحسبه، ومن هنا كانت الحاجة إلى الرسل ليبلغوا الناس أحكام العبادات حتمية الوجود لاستحالة أن يضع الناس أحكاماً في العبادات، ولأنها لا تأتي إلا من الله تعالى.

العبادة لا تصدر إلا عن وحي:

المقصود من العبادة: تهذيب النفس بالتوجه إلى الله، والخضوع له، والانقياد لأحكامه بالامتثال لأمره، فلا تصدر إلا عن طريق الوحي بنوعيه: الكتاب الكريم، وسنة النبي المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، قال تعالى: ﴿وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى﴾.

اشتراط النية في العبادات:

لا خلاف بين الفقهاء في اشتراط النية في العبادات لخبر ” إنما الأعمال بالنيات” والحكمة في إيجاب النية فيها: تميز العبادة عن العادة، وتمييز رتب بعض العبادات بعضها عن بعض، ولهذا قالوا: تجب النية في العبادة التي تلتبس بعادة، فالوضوء والغسل يترددان بين التنظيف والتبرد والعبادة، والإمساك عن المفطرات قد يكون للحمية والتداوي، وقد يكون لعدم الحاجة إليه، وقد يكون للصوم الشرعي، والجلوس في المسجد يكون للاستراحة ويكون للاعتكاف، ودفع المال للغير قد يكون صدقة تطوع وقد يكون فرض الزكاة، فشرعت النية لتمييز العبادة عن غيرها، والصلاة قد تكون فرضا، أو نفلا، فشرعت النية لتمييز الفرض عن النفل.
أما التي لا تلتبس بعادة، كالإيمان بالله والخوف، والرجاء، والأذان، والإقامة، وخطبة الجمعة، وقراءة القرآن والأذكار فلا تجب فيها النية لأنها متميزة بصورتها

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ

قدم الحق سبحانه المفعولين لنعبد ونستعين، وهذا التقديم للاختصاص لانه سبحانه وتعالى وحده له العبادة لذا لم يقل نعبدك ونستعينك لانها لا تدل على التخصيص بالعبادة لله تعالى، أما قول ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ فتعني تخصيص العبادة لله تعالى وحده وكذلك في الاستعانة ﴿إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ تكون بالله حصرا ﴿ربنا عليك توكلنا واليك أنبنا واليك المصير﴾ (الممتحنة 4) كلها مخصوصة لله وحده حصرا فالتوكل والانابة والمرجع كله إليه سبحانه ﴿وعلى الله فليتوكل المتوكلون﴾ (ابراهيم 12)

لماذا كرر إياك مع فعل الاستعانة ولم يقل إِيَّاكَ نَعْبُدُ و نَسْتَعِينُ؟  

التكرار يفيد التنصيص على حصر المستعان به، ولو اقتصرنا على ضمير واحد إِيَّاكَ نَعْبُدُ ونستعين لم يعني المستعان إنما عنى المعبود فقط، ولو اقتصرنا على ضمير واحد لفُهِمَ من ذلك أنه لا يُتَقَرَّبُ إليه إلا بالجمع بين العبادة والاستعانة بمعنى أنه لا يعبد بدون استعانة ولا يستعان به بدون عبادة، وهذا غير وارد، وانما هو سبحانه نعبده على وجه الاستقلال ونستعين به على وجه الاستقلال، وقد يجتمعان لذا وجب التكرار في الضمير ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾. كما أن التكرار توكيد في اللغة، في التكرار من القوة والتوكيد للاستعانة فيما ليس في الحذف.

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾: أطلق سبحانه فعل الاستعانة ولم يحدد نستعين على شئ، أو نستعين على طاعة أو غيره انما اطلقها لتشمل كل شئ وليست محددة بأمر واحد من أمور الدنيا. وتشمل كل شئ يريد الانسان أن يستعين بربه عليه، لان الاستعانة غير مقيدة بأمر محدد. وقد عبر سبحانه عن الاستعانة والعبادة بلفظ ضمير الجمع (نعبد ونستعين) وليس بالتعبير المفرد أعبد وأستعين وفي هذا اشارة الى أهمية الجماعة في الاسلام لذا تلزم قراءة هذه السورة في الصلاة وتلزم ان صلاة الجماعة افضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين مرة وفيها دليل على اهمية الجماعة عامة في الاسلام مثل الجماعة وهم المسلمون تحت خليفة يحكمهم بشرع الله، ومنه سمي عام اجتماع المسلمين تحت خليفة واحد لما تنازل الإمام الحسن بن علي رضي الله عنهما لمعاوية رضي الله عنه عن الخلافة سمي عام الجماعة، والحج وصلاة الجماعة، الزكاة، الجهاد، الاعياد والصيام. اضافة الى ان المؤمنين اخوة فلو قال إياك أعبد لأغفل عبادة اخوته المؤمنين وانما عندما نقول ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ نذكر كل المؤمنين ويدخل القائل في زمرة المؤمنين ايضاً.

لماذا قرن العبادة بالاستعانة؟ 

اولاً ليدل على ان الانسان لا يستطيع أن يقوم بعبادة الله الا بإعانة الله له وتوفيقه، فهو إذن إشعار وإعلان أن الانسان لا يستطيع أن يعمل شيئاً الا بعون الله وهو إقرار بعجز الانسان عن القيام بالعبادات وعن حمل الامانة الثقيلة اذا لم يعنه الله تعالى على ذلك، الاستعانة بالله علاج لغرور الانسان وكبريائه عن الاستعانة بالله واعتراف الانسان بضعفه.

لماذا قدم العبادة على الاستعانة؟

العبادة هي علة خلق الانس والجن ﴿وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون﴾ (الذاريات 56) والاستعانة انما هي وسيلة للعبادة فالعبادة أولى بالتقديم. العبادة هي حق الله والاستعانة هي مطلب من مطالبه وحق الله اولى من مطالبه.

ضمير المفرد ونون العظمة في خطاب رب العالمين

قال رب العالمين ﴿إياك﴾، ولم يقلم: إياكم، وفي مواطن أخرى من القرآن تجده يقول: ﴿إنا﴾، فمتى يقع استعمال ضمير المفرد، ومتى تستعمل نون العظمة في خطاب رب العالمين؟

قال العلامة الشعراوي رحمه الله:

هنا لابد أن نلتفت إلى أن الله سبحانه وتعالى حينما يخبرنا عن قضية من فعله. يأتي دائما بنون العظمة التي نسميها نون المتكلم.. ونلاحظ أن نون العظمة يستخدمها رؤساء الدول والملوك ويقولون نحن فلان أمرنا بما هو آت.. فكأن العظمة في الإنسان سخرت المواهب المختلفة لتنفيذ القرار الذي يصدره رئيس الدولة.. فيشترك في تنفيذه الشرطة والقضاء والدولة والقوات المسلحة إذا كان قرار حرب.. تشترك مواهب متعددة من جماعات مختلفة تتكاتف لتنفيذ القرار.. والله تبارك وتعالى عنده الكمال المطلق.. كل ما هو لازم للتنفيذ من صفات الله سبحانه وتعالى.. فإذا تحدث الله جل جلاله عن فعل يحتاج إلى كمال المواهب من الله تبارك وتعالى يقول ﴿إنا﴾:﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]
ولكن حين يتكلم الله عن ألوهيته وحده وعن عبادته وحده يستخدم ضمير المفرد.. مثل قوله سبحانه: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي﴾[طه: 14]
ولا يقول فاعبدنا.. إذن ففي كل فعل يأتي الله سبحانه بنون العظمة.. وفي كل أمر يتعلق بالعبادة والتوحيد يأتي بالمفرد.. وذلك حتى نفهم أن الفعل من الله ليس وليد قدرته وحدها.. ولا علمه وحده ولا حكمته وحدها ولا رحمته وحدها.. وإنما كل فعل من أفعال الله تكاملت فيه صفات الكمال المطلق لله.
إن نون العظمة تأتي لتلفتنا إلى هذه الحقيقة لتبرز للعقل تكامل الصفات في الله.. لأنك كبشر قد تقدر ولا تعلم.. وقد تعلم ولا تقدر، وقد تعلم وتغيب عنك الحكمة. إذن فتكامل الصفات مطلوب.
وأما الخطاب في حال كون الموضوع متعلقا بالعبودية لله، فإن مقام التوحيد الخالص يقتضي الإفراد ليتقرر لدى العابد أن المعبود واحد وأن الإله واحد لا شريك له.

﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾

قال الجوهري في الصحاح: الصِراطُ والسِراطُ والزِراطُ: الطريقُ.

الصراط: هو الطريق، وهو كل ممر بين نقطتين متناقضتين أو متقابلتين، كضفتي نهر أو قمتي جبلين أو الحق والباطل والضلالة والهداية في الاسلام، أو الكفر والإيمان. والصراط واحد لا يثنى ولا يجمع. وقد استعير في القرآن الكريم للتوحيد فلا إله إلا الله تنقل من الكفر إلى الإيمان ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)﴾ ( الأنعام) ﴿مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)﴾ ( الأنعام) ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (الفاتحة 7) ﴿فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43﴾ (مريم) ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)﴾ (المؤمنون)

والصراط في هذه الآية مستعار لمعنى الحق الذي يبلغ به مدركه إلى الفوز برضاء الله لأن ذلك الفوز هو الذي جاء الإسلام بطلبه والمستقيم اسم فاعل استقام مطاوع قومته فاستقام، والمستقيم الذي لا عوج فيه ولا تعاريج، وأحسن الطرق الذي يكون مستقيماً وهو الجادة لأنه باستقامته يكون أقرب إلى المكان المقصود من غيره فلا يضل فيه سالكه ولا يتردد ولا يتحير.

الصراط واحد والسبل متفرقة كثيرة:

﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)﴾ الأنعام، روى الأئمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أمرتكم به فخذوه وما نهيتكم عنه فانتهوا ” وروىٰ ابن ماجه وغيره عن العِرْباض بن سَارِية قال: وَعَظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذَرَفت منها العيون؛ وَوَجِلَت منها القلوب؛ فقلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظةُ مودّع، فما تَعْهَد إلينا؟ فقال: ” قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي عَضُّوا عليها بالنواجذ وإياكم والأمور المحدثات فإن كلّ بدعة ضلالة وعليكم بالطاعة وإنْ عبداً حبشيَّاً فإنما المؤمن كالجَمَل الأَنِف حيثما قِيد ٱنقاد ” أخرجه الترمذي بمعناه وصححه 

وروى أبو داود قال حدثنا ٱبن كثير قال أخبرنا سفيان قال: كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر؛ فكتب إليه: أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المحدثون بعدما جرت به سنّته، وكُفُوا مؤونته، فعليك بلزوم الجماعة فإنها لك بإذن الله عصمة، ثم ٱعلم أنه لم يبتدع الناس بدعةً إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرةٌ فيها؛ فإن السنة إنما سنّها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل، والحمق والتعمق؛ فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم؛ فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وإنهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولىٰ، فإن كان الهُدَىٰ ما أنتم عليه فقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم إنما حدث بعدهم فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلِهم وَرَغِب بنفسه عنهم؛ فإنهم هم السابقون، قد تكلّموا فيه بما يكْفي ووصفوا ما يشفي، فما دونهم من مقصر، وما فوقهم من مجسر، وقد قصر قوم دونهم فَجَفَوْا، وطَمح عنهم أقوام فَغَلْوا وإنهم مع ذلك لَعَلىٰ هُدىً مستقيم. وذكر الحديث.

وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا الأسود بن عامر شاذان، حدثنا أبو بكر، هو ابن عياش، عن عاصم، هو ابن أبي النجود، عن أبي وائل، عن عبد الله، هو ابن مسعود رضي الله عنه: قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده، ثم قال: ” هذا سبيل الله مستقيماً ” وخط عن يمينه وشماله، ثم قال: ” هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ” ثم قرأ: ﴿وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾، 

وقوله تعالى: ﴿فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ﴾ إنما وحَّدَ سبيله؛ لأن الحق واحد، ولهذا جمع السبل؛ لتفرقها وتشعبها؛ كما قال تعالى:

﴿ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّـٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَـٰتِ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ﴾ البقرة، ولهذا وحد تعالى لفظ النور، وجمع الظلمات، لأن الحق واحد، والكفر أجناس كثيرة، وقال تعالى:
﴿وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ﴾، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) الأنعام

قال عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ قال: القرآن، يقول: أرشدنا إلى علمه.

﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

حين يدعو المؤمنُ ربَّهُ في صلاته أن يهديه الصراط المستقيم، فإنه يدعوه أن يجعله على أمر عظيم وصف رب العزة نفسه بأنه عليه، ووصف أنبياءه عليهم سلام الله أنهم عليه، وبين أن دعوة أولئك الأنبياء إنما هي لهذا الصراط المستقيم، وأنهم يهدون إليه، فتأمل عظيم شأن هذا، يقول رب العزة سبحانه:

﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾ هود. والمعنى أن الله جلّ ثناؤه وإن كان يقدر على كل شيء فإنه لا يأخذ إلا بالحق؛ والصراط المستقيم مستعار للفعل الجاري على مقتضى العدل والحكمة؛ لأنّ العدل يُشبَّهُ بالاستقامة والسواء. وقيل: معناه لا خَلل في تدبيره، ولا تفاوت في خلقه سبحانه، فمنهجه الذي أنزله لا خلل فيه، ولا تفاوت، وفعله جل وعلا على مقتضى العدل والحكمة، فحري بنا أن نفهم أن غاية الغايات الارتقاء بأفعالنا لتكون على المنهج القويم الذي ارتضاه رب العالمين لنفسه ولرسله.

إذن، فعندما ندعو الله أن يهدينا الصراط المستقيم، فإنما ندعوه ليأخذ بأيدينا إلى ذلك الأمر الجلل العظيم ليسدد سيرنا على الطريق القويم على أقوم هيئة، وأرقى صورة.

﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)﴾ يس، ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)﴾ النحل. إذن فبلوغ الصراط المستقيم نعمة عظيمة يجتبي الله إليها صفوة الخلق اجتباء، جعلنا الله وإياكم منهم.

﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)﴾ الأنعام، لعل هذا يكون اختزالا لوصف الدين الذي أنزل الله على رسوله، بأنه صراط الله المستقيم!

﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)﴾ المؤمنون

﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)﴾ الشورى

﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)﴾ المائدة، فلبلوغ الصراط المستقيم سبيل واحد وهو اتباع منهج الحق واتخاذه سبيلا، ﴿وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)﴾ الزخرف وليس الأمر بالهيِّن، بل على المرء التمسك به بكلتا قبضتيه، والاعتصام به، وإلا تفلت من يديه وعرَّض نفسه لخطر الانزلاق في سبل الردى: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)﴾ الزخرف، ثم على المرء التزود بالعبادة، ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)﴾ الزخرف، لتعينه على الاعتصام بهذا الهدى: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)﴾ آل عمران، والصراط المستقيم هو الفيصل بين من يدرك غاية وجوده في الحياة، وينهل من معاشه مدركا الحقيقة، مطمئنا إليها، لا يشغل نفسه بصغائر الأمور، لأنه وهو يمشي على صراط مستقيم، يبصر ببصيرته البعيدة ما لا يراه من يمشي ورأسه مطأطأ صوب الأرض، تشغله صغائر الأمور عن عظائمها، ولا يبصر لحياته غاية، فحال هذا لا شك يختلف عن حال ذلك!

﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)﴾ الملك

رجل أشركه الله في سلطانه!!

إن منهج الله القويم هذا، وصراطه المستقيم، هو العصمة من وقوع الجور في الأرض، والوقاية من ظلم الناس بعضهم لبعض، فكما يكون المرء على صراط مستقيم، فإن الأمة كلها قد تكون على صراط مستقيم، بأن تطبق منهج ربها في حياتها، فتأمل معي ما سأقول لك:

ذكر ابن قتيبة الدينوري في كتابه الإمامة والسياسة أن إبراهيم بن مسلم أخبرهم عن رجاء بن حيوة، أنه نظر إلى طاووس اليماني يصلي في المسجد الحرام، فانصرف رجاء إلى سليمان بن عبد الملك وهو يومئذ بمكة قد حج ذلك العام. فقال: إني رأيت طاووس في المسجد، فهل لك أن ترسل إليه؟ قال: فأرسل إليه سليمان. فلما أتاه قال رجاء لسليمان: يا أمير المؤمنين، لا تسأله عن شيء حتى يكون هو الذي يتكلم. فلما قعد طاووس سكت طويلاً. ثم قال: ما أول شيء خلق! فقلنا: لا ندري. فقال أول شيء خلق: القلم. ثم قال: أتدرون ما أوّل شيء كتب؟ قلنا: لا، قال: فإن أول ما كتب بسم الله الرحمن الرحيم، ثم كتب القدر خيره وشرّه إلى يوم القيامة. ثم قال: أتعلمون من أبغض الخلق إلى الله؟ قلنا: لا، فقال: إن أبغض الخلق إلى الله تعالى عبد أشركه الله في سلطانه، فعمل فيه بمعاصيه، ثم نهض. قال رجاء: فأظلم عليّ البيت، فما زلت خائفاً عليه حتى توارى، فرأيت سليمان يحك رأسه بيده، حتى خشيت أن تجرح أظفاره لحم رأسه.

لقد حفظ هذا عن طاووس اليماني رضي الله عنه ابنه عبد الله بن طاووس فقد جاء في شذرات الذهب، وفي كثير من كتب التاريخ والسير، روى زياد عن مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه قال: لما بعث أبو جعفر في عام 142هـ إلى مالك بن أنس وابن طاوس قال: دخلنا عليه وهو جالس على فرش، وبين يديه أنطاع قد بسطت، وجلادون بأيديهم السيوف يضربون الأعناق، فأومأ إلينا أن اجلسا فجلسنا، فأطرق زماناً طويلاً ثم رفع رأسه والتفت إلى ابن طاوس وقال: حدثني عن أبيك. قال: سمعت أبي يقول: قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم “إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل أشركه الله تعالى في سلطانه، فأدخل عليه الجور في حكمه”. فأمسك أبو جعفر ساعة حتى اسود ما بيننا وبينه، قال مالك: فضممت ثيابي خوفا من أن يصيبني دمه، ظنا منه أن المنصور لابد قاتله، ثم قال المنصور لعبد الله: ناولني تلك الدواة، ثلاث مرات، فلم يفعل، فقال له: لم لم تناولني الدواة؟ فقال: أخاف أن تكتب بها معصية فأكون قد شاركتك فيها. فلما سمع ذلك قال لهما: قوما عني، فقال عبد الله: هذا ما كنا نبغي، قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاووس فضله من يومئذ.

وورد في الدر المنثور للسيوطي وأخرجه ابن أبي شيبة وفي سنن الترمذي: عن عمرو بن الحارث بن المصطلق قال كان يقال أشد الناس عذابا يوم القيامة اثنان امرأة عصت زوجها وإمام قوم وهم له كارهون قال هناد قال جرير قال منصور فسألنا عن أمر الإمام فقيل لنا إنما عني بهذا أئمة ظلمة فأما من أقام السنة فإنما الإثم على من كرهه، جاء في تحفة الأحوذي: قال العراقي هذا كقول الصحابي كنا نقول وكنا نفعل فإن عمرو بن الحارث له صحبة وهو أخو جويرية بنت الحارث إحدى أمهات المؤمنين وإذا حمل على الرفع فكأنه قال قيل لنا والقائل هو النبي صلى الله عليه وسلم انتهى

وروى أحمد والبزار من حديث ابن مسعود موقوفا: {أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا أو قتله نبي وإمام جائر} قال زين الحفاظ العراقي في شرح الترمذي إسناده صحيح.
وقال رب العالمين وهو أصدق القائلين سبحانه: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ.﴾ 213 البقرة وقال عز من قائل سبحانه: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾105 النساء.

‎والى جانب هذا أمر أن تكون سيادة حكم الشرع هي المسيطرة على العلاقات بين الحاكم والرعية فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)﴾
فأمر الرعية والحكام اذا تنازعوا في شيء ان يردوه الى حكم الشرع، وجعل ذلك علامة على الايمان فقال ﴿فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ وعقبه على ذلك بقوله ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ﴾ ولم يكتف بذلك بل مدح هذا العمل بقوله ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ مما يدل على تأكيده وجزمه في رد الامر الى حكم الشرع وهذا من أبلغ الحث على تحقيق سيادة حكم الشرع، وبهذا كله يتبين مدى ما لتحقيق سيادة حكم الشرع من أهمية في نظر الاسلام.

وعلاوة على ذلك فقد قرن تعالى طاعته وطاعة رسوله بطاعة أولي الأمر منا، وذلك لأن أولي الأمر كما أخبر ابن طاووس عن أبيه أن الله تعالى أشركهم في سلطانه، وفي رواية في ملكه، أي جعلهم خلفاء يحكمون بما أنزل من العدل ليقوم الناس بالقسط، فإن أدخلوا الجور على الناس، لم يقم الناس بما خلقهم الله تعالى وأنزل عليهم شرائعه ليكونوه، فيكون هؤلاء الحكام قد أدخلوا الجور على الحق سبحانه وتعالى، فأي شيء أفظع!!

إن الناس إن احتكموا إلى شرع الله ساد العدل وقامت السموات والأرض بالحق، فيتنزل فضل الله تعالى على البرية مصداقا لقوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾،
فإذ أدخل عليهم حكامهم الجور وطغوا وبغوا، أبعدوا الناس عن الاستقامة، وإذ لم يأخذ الناس على أيدي حكامهم ليأطروهم على الحق أطرا، ضاع الحق، ففسدت السموات والأرض، فدخل الجور في الأرض، فاستبيحت الحرمات، وانتهكت الحقوق، وفسدت الأحكام، فدخل الجور إلى ملكوت الأرض، فَرَضَ الله تعالى على الخلق حكاما ومحكومين أن يقوموا بالقسط، وأن يسيروا على الصراط المستقيم، فأبى من أبى، ونكص على عقبيه من نكص، فدخل الجور، وبرزت سبل الشيطان مكان صراط الله المستقيم، وانزلق فيها المنزلقون، لذا يشتد سخط الله ويشتد عذابه ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾.

إن قضية الحكم بما أنزل الله بهذا الحجم من الخطورة، لا يكاد يضاهيها في الخطر قضية مثلها، فإما أن يسود حكم الله الأرض فيسود العدل، وإما يدخل على الله الجور من قبل حكامٍ الأصلُ أنهم يحكمون خلفاء في الأرض ليقوم الناس بالقسط، أو من قبل محكومينَ ارتضوا أن يُحكَموا بغير شرع الله فارتضوا أن يسود الأرض غير عدل الله تعالى ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.

في الحديث القدسي عن أبي ذرٍ جندب بن جنادة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنه قال: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا.

فقد حرم الله الظلم على نفسه، وحرمه على العباد وأنزل الشرع الذي يضمن أن لا يدخل الجور في ملكوت السموات والأرض، فالويل والثبور لمن أدخل الظلم في هذا الملكوت، فكيف بمن يحكم بغير العدل مما أنزل الله متبعا هواه، وكيف بمن يحكم بغير ما أنزل الله فيقضي بالظلم ولا يكتفي بأن يدخل على الله تعالى الجور في الحكم ولا يكتفي بأن يمنع الناس من العدل الذي شرعه لهم رب العزة سبحانه ليقوموا بالقسط، بل إنه يرد على الله تعالى أحكامه ويتخذ نفسه ربا من دون الله.
﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)﴾  

الايمان بين العقل والفطرة والوجدان:

﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾: نعم إن الإيمان بالخالق المدبر فطري في كل إنسان، إلا أن هذا الإيمان الفطري يأتي عن طريق الوجدان، وهو طريق غير مأمون العاقبة، وغير موصل إلى تركيز إذا ترك وحده. فالوجدان كثيراً ما يضفي على ما يؤمن به أشياء لا حقائق لها، ولكن الوجدان تخيلها صفات لازمة لما آمن به، فوقع في الكفر أو الضلال. 

وما عبادة الأوثان، وما الخرافات والترهات إلا نتيجة لخطأ الوجدان، ولهذا لم يترك الإسلام الوجدان وحده طريقة للإيمان، حتى لا يجعل لله صفات تتناقض مع الألوهية، أو يجعله ممكن التجسد في أشياء مادية، أو يتصور إمكان التقرب إليه بعبادة أشياء مادية، فيؤدي إما إلى الكفر أو الإشراك، وإما إلى الأوهام والخرافات التي يأباها الإيمان الصادق. 

ولذلك حتم الإسلام استعمال العقل مع الوجدان، وأوجب على المسلم استعمال عقله حين يؤمن بالله تعالى، ونهى عن التقليد في العقيدة ولذلك جعل العقل حكماً في الإيمان بالله تعالى. قال تعالى: ﴿إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب﴾ ولهذا كان واجباً على كل مسلم أن يجعل إيمانه صادراً عن تفكير وبحث ونظر، وأن يحكم العقل تحكيماً مطلقاً في الإيمان بالله تعالى. ( والدعوة إلى النظر في الكون لاستنباط سننه وللاهتداء إلى الإيمان ببارئه، يكررها القرآن مئات المرات في سوره المختلفة، وكلها موجهة إلى قوى الإنسان العاقلة تدعوه إلى التدبر والتأمل ليكون إيمانه عن عقل وبينة وتحذره الأخذ بما وجد عليه آباءه من غير نظر فيه وتمحيص له وثقة ذاتية بمبلغه من الحق.  هذا هو الإيمان الذي دعا الإسلام إليه، وهو ليس هذا الإيمان الذي يسمونه إيمان العجائز، إنما هو إيمان المستنير المستيقن الذي نظر ونظر، ثم فكر وفكر، ثم وصل من طريق النظر والتفكير إلى اليقين بالله جلت قدرته). 

ورغم وجوب استعمال الإنسان العقل في الوصول إلى الإيمان بالله تعالى فإنه لا يمكنه إدراك ما هو فوق حسه وفوق عقله، وذلك لأن العقل الإنساني محدود، ومحدودة قوته مهما سمت ونمت بحدود لا تتعداها، ولذلك كان محدود الإدراك، ومن هنا كان لا بد أن يقصر العقل دون إدراك ذات الله، وأن يعجز عن إدراك حقيقته، لأن الله وراء الكون والإنسان والحياة، والعقل في الإنسان لا يدرك حقيقة ما وراء الإنسان، ولذلك كان عاجزاً عن إدراك ذات الله.

ويقف الانسان بعد أن يدرك وجود الله تعالى، محتاجا إلى الطريق التي توصله إليه سبحانه وتعالى، وتبلغه السبب الذي خلقه لأجله، والوظيفة التي عليه أن يقوم بها في الأرض، وتبين له ما عليه أن يفعل، مما فيه صلاح أمره، ومما ينال به رضا خالقه وثوابه، وما عليه أن يترك، مما فيه غضب خالقه، وعليه عقابه، فكانت الحاجة للرسل، ليبينو للناس صلتهم بالخالق سبحانه وتعالى، فوق صلة الخلق والإيجاد، تلك الصلة، صلة الأوامر والنواهي، وصلة المناهج التي تقيم الحياة وتضمن للمرء بلوغ الغاية والسلامة في الدنيا والآخرة، وتبين له أمر الغيب، وهذا كله هو الطريق الذي يصل العبد بربه سبحانه وتعالى، فكان على المرء أن يتضرع إلى الله تعالى أن يهديه هذه الطريق، ليصل إلى الغاية المرجوة، وينجو من الزلل والخطأ المفضي إلى مناهج الزيغ والضلالة.

﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾: هذا دعاء ولا دعاء مفروض على المسلم قوله غير هذا الدعاء، فيتوجب على المسلم قوله عدة مرات في اليوم، وهذا بدوره يدل على أهمية الطلب وهذا الدعاء لان له أثره في الدنيا والآخرة ويدل على أن الانسان لا يمكن أن يهتدي للصراط المستقيم بنفسه الا إذا هداه الله تعالى لذلك. اذا ترك الناس لانفسهم لذهب كل الى مذهبه ولم يهتدوا الى الصراط المستقيم.

الهدى والضلال:

قال الإمام النبهاني رحمه الله: والهدى في اللغة الرشاد والدلالة، يُقال هداه للدين يهديه هدى، وهديته الطريق والبيت هداية عرَّفته. والضلال ضد الرشاد. والهداية شرعاً هي الاهتداء إلى الإسلام والإيمان به، والضلال شرعاً هو الانحراف عن الإسلام، ومنه قوله عليه السلام: «لا تجتمع أمتي على ضلالة» أخرجه أحمد. وقد جعل الله الجنة للمهتدين والنار للضالين، أي أن الله أثاب المهتدي وعذب الضال، فتعليق المثوبة أو العقوبة بالهدى والضلال يدل على أن الهداية والضلال هما من فعل الإنسان وليسا من الله. إذ لو كانا من الله لما أثاب على الهداية وعاقب على الضلال، لأن ذلك يؤدي إلى نسبة الظلم إلى الله تعالى، إذ أنه حين يُعاقِب مَنْ قام هو بإضلاله يكون قد ظلمه، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، قال تعـالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)﴾ وقال: ﴿وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)﴾.

الهدى والضلال بين الجبر والاختيار

وأما الهداية والضلال، فإنه مما لا شك فيه أن الإنسان، هو الذي يهتدي، وهو الذي يضل، فإذا اهتدى فإنما توصل للهداية بنفسه بعقله وتفكيره، وفي سعيه وعمله، فهو يهتدي مختارا، ويضل مختارا، دون أي إجبار، كأي فعل من أفعاله الداخلة ضمن دائرة الأفعال التي يسيطر عليها، فالهداية والضلال ليسا من دائرة الأفعال التي تقع على الانسان ولا يسيطر عليها هي، كالأفعال التي تنتمي لما نسميه: نظام الوجود، ولا من الأفعال التي ليست في مقدور الإنسان ولا قبل له بدفعها، ولا من الأفعال التي يقتضيها نظام الوجود، ولذلك لم تكن من الدائرة التي تسيطر عليه، بل هي من الدائرة التي يسيطر هو عليها.

فالهدى والضلال ليسا كدقات القلب ولون العينين، وشكل الرأس، وما شاكل ذلك، مما هو من نظام الوجود، وليست كسقوط النائم عن ظهر سطح، ولا كانزلاق الساهي على كل شيء أملس، ولا ككفر الضعيف المهدد بالقتل فعلا من القوي، ولا مما هو مثل ذلك، مما ليس في مقدور الإنسان، ولا قبل له بدفعه، وكذلك ليست هي كالجناحين للطائر، ولا كالرجلين للماشي، ولا كالضوء للأبصار، ولا شيئا مثل ذلك مما يقتضيه نظام الوجود، بل هي كالأكل من قبل الإنسان، وكالسفر، والمشي، والبيع والشراء، والصوم والصلاة، وغير ذلك مما يقع في الدائرة التي يسيطر عليها الإنسان، فيستطيع بمحض اختياره أن يقوم بهذه التصرفات أو يحجم عنها. 

ولهذا كان الهدى، والضلال، من الإنسان نفسه، فهي فعل من أفعاله، كسائر أفعاله الاختيارية.

هذا هو واقع الهدى والضلال. 

نسبة الهدى والضلال للانسان في القرآن:

على أن كثيرا من آيات القرآن جاءت صريحة في أن الهدى والضلال من أفعال الإنسان، وصريحة في نسبة الهدى والضلال إلى  العبد، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ (يونس 108) ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ (41) (الزمر 41)، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ (ص26)، ﴿لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ (المائدة 105)  ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ (157)(البقرة)، ﴿قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾ (سبأ 50)، ﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ (18) (البقرة) ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ (119) (النساء) ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ (136) ) (النساء) ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ (36)(الأحزاب)، ﴿فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ﴾ (آل عمران 20)، ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ (54) (النور).

فهذه الآيات صريحة الدلالة في نسبة الهداية إلى العبد، وأنه هو الذي يهتدي، وهو الذي يضل، وهذا يعني صراحة أن الإنسان هو الذي يهتدي، وهو الذي ضل.

وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى يحاسب الناس فيثيب المهتدي، ويعذب الضال، ورتب الحساب على أعمال الإنسان، قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (46) )(فصلت)، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾ (الزلزلة)، ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)﴾ (طه) ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ (النساء 123) ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ (التوبة68) فإن هذه الآيات صريحة في الدلالة على أن  الله يحاسب على الهداية والضلال ويكون ظلما لو كان أجبر على شيء ثم حاسب عليه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، لأنه حساب لهم على كل شيء لم يفعلوه هم، ولأن تعذيب الأشخاص من قبل الله على فعل فعله هو، وليس هم، ولا شك أن مثل ذلك ظلم، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ولهذا كان الإنسان هو الذي يهتدي، وهو الذي يضل، وكانت محاسبته على ذلك عدلا، لأنها محاسبة له على فعل فعله هو، وكان تعذيب الله للضالين عدلا، لأنه تعذيب لهم على أفعالهم هم.

فهذه الأدلة الثلاثة: واقع الهدى والضلال، والآيات القطعية في الدلالة على أن الإنسان هو الذي يضل، ومحاسبة الله على الهدى والضلال وتعذيبه الضالين، كل ذلك يدل دلالة واضحة على أن الإنسان هو الذي يهتدي، وهو الذي يضل، فلا كلام في أن الهداية والضلال إنما  هي من فعل الإنسان الذي يحاسب عليه وهو غير مجبر عليها.

نسبة الهداية والضلال للخالق سبحانه في القرآن:

وأما ما ورد من آيات تدل على نسبة الهداية والضلال، والآيات القطعية في الدلالة على أن الله هو الذي  خلق الهداية والضلال من العدم، وليس معناها أن الله هو الذي باشر فعل الهداية، فقوله تعالى ﴿قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ (يونس 35)، ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ (الأعراف43)، ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)﴾ (الكهف)، ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ (البقرة 143)، ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ (البقرة 185)، ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ﴾ (النحل 36) ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ (7) ) (الضحى) وغير ذلك من الآيات، لا تعني أن الله باشر الهداية، وإنما تعني أن الله خلق الهداية. ولا يقال إن الهداية أسندت إلى الله في هذه الآيات، فهي إسناد على الحقيقة، فيكون الله هو الذي فعل الهداية، لا يقال ذلك، لأن هناك قرينة تصرف الإسناد عن الحقيقة إلى المجاز، أي تصرف الإسناد عن الفعل إلى الخلق، وهذه القرينة هي الآيات التي تستند الهداية إلى الإنسان نفسه، من مثل قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ (النمل 92) والآيات التي تسند الضلال إلى الناس وإلى الجن وإلى الشيطان، من مثل قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ﴾ (29 فصلت)، ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام 144)، ﴿وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ﴾ (99) (الشعراء) ﴿رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ﴾ (الأعراف 38)، ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ (69) (آل عمران)، ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾ (67) (الأحزاب) ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)﴾ (الحج)، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ  بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ (26ص).

إلى غير ذلك من الآيات فإنها كلها تنسب الهدى والضلال لغير الله، فإذا قرنت بالآيات التي تنسب الهداية والضلال إلى الله كانت قرينة على أن المراد بتلك الآيات هي أن الهداية، فتصرفها عن معناها الأصلي أي عن الفعل.

ولا يقال إن الآيات التي نسب الفعل فيها إلى الله هي القرينة على أن نسبة الهداية لغير الله مجاز وليس حقيقة، ولا يقال ذلك، لأن هذه الآيات التي نسبت فيها الهداية والضلال إلى العبد، قد قرنت بترتيب حكم على الهداية والضلال فيها إلى العبد على الحقيقة، وليس في الآيات التي فيها نسبة الهداية والضلال إلى الله، أية قرينة، تدل على أنها على الحقيقة، فتكون هذه الآيات المقترنة بقرينة الثواب والعقاب على اهتداء العبد وضلاله هي القرينة على أن الآيات التي نسب فيها الهدى والضلال إلى الله، هي نسبة على المجاز، وليس على الحقيقة، أي قرينة على أن الله خلق الهداية والضلال، لا أنه باشر فعلها.

الهدى والضلال والمشيئة والإرادة:

وأما ما ورد من آيات قد اقترنت فيها الهداية والضلال بمشيئة الله وإرادته، فإن معناها أنه لا يهتدي أحد جبرا عن الله، ولا يضل أحد جبرا عن الله، وليس معناها أن إرادة الله هي التي فعلت الهداية. فقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ (فاطر8) ﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ (إبراهيم4) ﴿وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ (النحل 93)، َ﴿مَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنعام125)، ﴿مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (الأنعام 39) وغير ذلك من الآيات التي اقترنت فيها الهداية والضلال بالمشيئة، والإرداة، فإنها لا تعني أن الإرداة والمشيئة هي سبب الهداية، أو هي التي فعلت الهداية، بل هي كأي فعل من أفعال العباد التي اقترنت بالمشيئة، والإرادة، فهي كقول الرسول صلى الله عليه وسلم (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) (البخاري ومسلم) بل إن كل فعل  من أفعال الإنسان لا يقوم به إلا بإرادة الله ومشيئته، وليست الهداية والضلال فحسب. وعليه فلا تكون هذه الآيات دليلا على أن الهدى والضلال ليسا من الإنسان، بل دليل على أن الإنسان لا يهتدي ولا يضل جبرا عن الله.

وأما الآيات التي جاءت تقرر أن أناسا معينين، لا يهتدون، فهي قسمان: أحدهما: آيات إخبار عن أناس ماضين، فهي تقص قصتهم بأنهم لم يهتدوا، وثانيهما: آيات تذكر صفات معينة لأناس وتقول إن هؤلاء الناس المتصفين بهذه الصفات لا يهتدون ما داموا متصفين بهذه الصفات. فأما القسم الأول فكقوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (البقرة)، ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (14)(المطففين)، ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ﴾ (هود 36)، وغير ذلك من الآيات، فإنها إخبار من الله لأنبيائه عن أناس مخصوصين بأنهم لن يؤمنوا، وهذا داخل في علم الله، وليس معناه أن هناك فئة تؤمن، وفئة لا تؤمن، فهي تتعلق بالإيمان، وهي إخبار عن واقع مضى، ولا دلالة فيها على أنه يوجد أناس لا يهتدون، أي لا يستطيعوا أن يفعلوا الهداية لأنفسهم، والفرق واضح بين أن يعلم الله في سابق علمه أن فلانا لن يؤمن، أي لن يختار فلان الهداية، فرق بين هذا وبين أن يقسره على أن لا يؤمن، فكون الله تعالى يعلم مسبقا، لا يدل على أي نوع من الإجبار، فعلم الله تعالى ليس كعلم البشر يحصل بعد أن يحصل المعلوم، كما أنه تبارك وتعالى يحيط بخفايا النفس البشرية، ويعلم ما ستختاره في كل مكان وزمان، فهذا العلم ليس بحال قسيم الإجبار، 

وأما القسم الثاني: فكقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة258)، ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [المائدة 108]، ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة 264]، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ [غافر28] وغير ذلك من الآيات، فإنها آيات تذكر صفات معينة، لا يكون الإنسان مهتدياً ما دام متصفاً بها، فما دام الإنسان متصفاً بالظلم، أو بالفسق، أو بالكفر، أو بالإسراف، إي بإنفاق المال على المحرمات، أو بالكذب، فإنه في هذه الحال لا يكون مهتدياً، ولن يهتدي ما دام متصفاً بها، فإن تركها، فإنه حينئذ يمكن أن يهتدي، لأن الاتصاف بها يناقض الهداية، هذا هو معنى الآيات، وليس معناها أن هناك أناساً لا يهتدون، فكل إنسان يمكنه أن يهتدي، ويمكنه أن يضل، ولا يوجد أناس لا يمكنهم أن يهتدوا،ولا أناس لا يمكنهم أن يضلوا. 

وأما قوله تعالى: ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ﴾ [ النحل 37] أي لا يهدي من علم أنه يضل، فهو إخبار عن علم الله، كأي فعل مقدر على الإنسان، أي مكتوب في اللوح المحفوظ بعلم الله أن ذلك الانسان سيختار الضلالة، فالانسان في هذه الحالة لا يستحق أن تتسبب له أسباب التوفيق للهداية لسلوكه طريق الضلالة، فإن تحركت فيه قابلية الهدى، هيأ الله له أسباب الهدى، 

أو أن فعل الإضلال يرجع إلى مسألة الإرادة والمشيئة، وهو يختلف عن مسألة الأمر بالضلال، أو الحمل على الضلال، فعدم التفريق بين المأمور والمراد جر للوقوع في خطأ الخلط بين جبر الانسان واختياره، وبين أن يعلم الله ويقع كل شيء في الكون بإرادته لا جبرا عنه، وأن الإرادة لا تستلزم بالضرورة أن يقعل الفعل على نحو ما يرضي المريد، لأنه إذ أراد، ولكنه لم يجبر، فإن وقع الأمر على خلاف ما يرضى، فذاك دليل على أنه لم يجبر، كأن يقتل شخص ما شخصا آخر ظلما، فإن هذا الفعل حصل بغير رضى الله تعالى، ولكنه لم يقع جبرا عنه، لم يقع غصبا عن إرادته سبحانه وتعالى، فكونه وقع في نطاق إرادته، إلا أنه ولكونه لم يقع وفق ما يرضيه، فإن ذاك يدل على أن الفاعل لم يكن مجبرا بل مخيرا، فالخلط إذن وقع من الظن بأن كل مراد مأمور ومرضي، فلا بد من التفريق بين الإرادة، وبين الامر (الذي به يحصل الجبر) والرضى، ونظير ذلك قوله تعالى في سورة الأنعام 148: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)﴾

 اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار صريح قول المجبرة وهو قولهم: لو شاء الله منا أن لا نشرك لم نشرك، وإنما حكى عنهم هذا القول في معرض الذم والتقبيح، فوجب كون هذا المذهب مذموماً باطلاً، وأعقبه بقوله ﴿وإن أنتم إلا تخرصون﴾ أي تكذبون، فأكذب حجتهم وأبطل مقولتهم.

والوجه الثاني: أنكم تقولون: لو كانت أفعالنا واقعة على خلاف مشيئة الله تعالى، لكنا قد غلبنا الله وقهرناه، وأتينا بالفعل على مضادته ومخالفته، وذلك يوجب كونه عاجزاً ضعيفاً، وذلك يقدح في كونه إلهاً.
فأجاب تعالى عنه: بأن العجز والضعف إنما يلزم إذا لم أكن قادراً على حملهم على الإيمان والطاعة على سبيل القهر والإلجاء، وأنا قادر على ذلك وهو المراد من قوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ إلا أني لا أحملكم على الإيمان والطاعة على سبيل القهر والإلجاء، لأن ذلك يبطل الحكمة المطلوبة من التكليف، فثبت بهذا البيان أن الذي يقولونه من أنا لو أتينا بعمل على خلاف مشيئة الله، فإنه يلزم منه كونه تعالى عاجزاً ضعيفاً، كلام باطل.

وحاصل هذه الحجّة: أنَّهم يحتجّون على النّبيء صلى الله عليه وسلم بأنّ ما هم عليه لو لم يكن برضى الله تعالى لصَرَفَهم عنه ولَمَا يسَّره لهم، يقولون ذلك في معرض إفحام الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وإبطال حُكمه عليهم بالضّلالة، وهذه شبهة أهل العقول الأفِنة الذين لا يُفرّقون بين تصرّف الله تعالى بالخَلْق والتّقدير وحفظِ قوانين الوجود، وهو التصرّف الذي نسمّيه نحن بالمشيئة وبالإرادة، وبين تصرّفه بالأمر والنّهي، وهو الذي نسمّيه بالرّضى وبالمحبّة، فالأوّل تصرّف التّكوين والثّاني تصرف التّكليف، فهم يحسبون أنّ تمكّنهم من وضع قواعد الشّرك ومن التّحريم والتّحليل ما هو إلاَّ بأن خلق الله فيهم التمكّن من ذلك، فيحسبون أنَّه حين لم يمسك عِنان أفعالهم كان قد رضي بما فعلوه، وأنَّه لو كان لا يرضى به لما عجز عن سلب تمكّنهم، يحسبون أنّ الله يُهمّه سوءُ  تصرّفهم فيما فطرهم عليه، ولو كان كما يتوهَّمون لكان الباطل والحقّ شيئاً واحداً.

وسبب هذه الضّلالة العارضة لأهل الضّلال من الأمم، التي تلوح في عقول بعض عوام المسلمين في معاذيرهم للمعاصي والجرائم أن يقولوا: أمْرُ الله أو مَكْتُوبٌ عند الله أو نحو ذلك، هو الجهل بأنّ حكمة الله تعالى في وضع نظام هذا العالم اقتضت أن يجعل حجاباً بين تصرّفه تعالى في أحوال المخلوقات، وبين تصرّفهم في أحوالهم بمقتضى إرادتهم، وذلك الحجاب هو ناموس ارتباط المسبّبات بأسبابها، وارتباطِ أحوال الموجودات في هذا العالم بعضِها ببعض، وذلك هو مورد التّكليف الدالّ على ما يرضاه الله وما لا يرضى به، وأنّ الله وضع نظام هذا العالم بحكمة فجعل قِوامه هو تدبير الأشياء أمورَها من ذواتها بحسب قوى أودعها في الموجودات لتسعى لما خُلقت لأجله، وزاد الإنسانَ مزيَّةً بأن وضع له عقلاً يمكّنه من تغيير أحواله على حسب احتياجه، ووضّع له في عقله وسائل الاهتداء إلى الخير والشرّ، كما قيّض له دعاة إلى الخير تنبّهه إليه إن عرته غفلة، أو حجبته شهوة، فإن هو لم يرعوِ غيِّهْ، فقد خَانَ بساطَ عقله بطَيِّهْ.
وبهذا ظهر تخليط أهل الضّلالة بين مشيئة العباد ومشيئة الله، فلذلك ردّ الله عليهم هنا قولهم: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا﴾ لأنَّهم جعلوا ما هو مشيئة لهم مشيئة لله تعالى، ومع ذلك فهو قد أثبت مشيئته في قوله:
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا﴾ [الأنعام: 107] فهي مشيئة تكوين العقول وتكوين نظام الجماعة، ومشيئة تنظيم الكون بنظام جعله قائما على تخيير العبيد في دائرة الأفعال التي سيحاسبون عليها، ولو شاء لقدر نظاما آخر.
فهذه المشيئة التي اعتلّوا بها مشيئة خفيّة لا تتوصّل إلى الاطّلاع على كنهها عقول البشر، فلذلك نعى الله عليهم استنادهم إليها على جهلهم بكنهها، فقال: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ فَشَبَّه بتكذيبِهم تكذيبَ المكذّبين الذين من قبلهم، فكنّى بذلك عن كون مقصد المشركين من هذه الحجّة تكذيب النّبيء صلى الله عليه وسلم وقد سبق لنا بيان في هذا المعنى في هذه السّورة (107) عند قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا﴾
  ومن هذا كله يتبين أن الإنسان هو الذي يهتدي، وهو الذي يضل، ولا يوجد إنسان لا يهتدي، ولا إنسان لا يضل، فكل إنسان يمكنه أن يهتدي ويمكنه أن يضل، فالهدى والضلال من الأفعال التي يباشرها الإنسان مختاراً، فهو الذي يضل، وهو الذي يهتدي. 

على أن الفرق بين الهدى وبين الاهتداء معلوم بالضرورة، فمقابل الهدى هو الإضلال ومقابل الاهتداء هو الضلال، فجعلُ الهدى في مقابلة الضلال ممتنع، بمعنى أن ما يفعله الانسان هو أن يهتدي، وما يفعله رب العالمين هو أن ينزل الهدى، وأن يهيئ أسبابا تعين من اهتدى على الهداية، وأن يخلق الهدى في النفوس، فيخلق فيها إيجاد القابلية للهداية، والانسان يضل، والله تعالى لا يُضل بمعنى يباشر الإضلال، ولكن بمعنى يخلق أسباب الضلال في النفوس، فكما خلق فيه الهداية خلق فيه الضلال، وتركه يتخير بينهما، أو أنه لا يعين من اتصف بصفات تحجبه عن استحقاق الهداية، بما يعينه عليها، لأن ذلك الذي لم يستحق الهداية لم يسلك سبيلها أصلا وسلك سبيلا مناقضا لها، فحيثما ورد إسناد الفعل إلى العبد، فُهم في سياق مباشرة الفعل، وحيثما ورد مسندا للخالق، فخلق الهداية أو التوفيق لها، ففي مواطن يدل على خلق الهداية وفي مواطن على التوفيق لها أو المعونة عليها وترك المباشرة للعبد.

الفرق بين خلق الهداية والتوفيق لها:

كما أسلفنا، فإن نسبة الهداية إلى الله تبارك وتعالى في تلك الآيات، إما يكون للدلالة على خلق الهداية، أو يكون للدلالة على التوفيق للهداية، وحيثما نسبت للعبد، فمعناها مباشرة الهداية، وتحمل المسئولية على تصرفاته.

التوفيق للهداية من الله، ولا يعني خلق الهداية في نفس الانسان. ‎لان خلق الهداية هو ايجاد قابلية الهداية، اما التوفيق للهداية فهو تهيئة اسباب هذه الهداية للانسان وهو غير مسألة خلق الهداية من العدم في نفس الانسان. وفرق بين الخلق للهداية من العدم وبين تهيئة الاسباب لهذه الهداية.

فالتوفيق يتعلق في الاسباب، اي اسباب هذه الهداية، أو صفات هذه الهداية والتي اذا ما اتصف بها الانسان اهتدى. اما الخلق فانه يتعلق بايجاد هذه الهداية من العدم في نفس الانسان، واختصاصه باعتبار نوعه بما لديه من قابلية للهداية. فالخلق هو ايجاد الانسان وفيه الهداية، ‎اي انه يقدر على هذه الهداية متى اراد، لانه مخلوق ومعه هذه الهداية، كما انه مخلوق ومعه القابلية للنطق والتفكير والقابلية للضلال والتضليل. 

‎فالله قد خلق في الانسان الهدى مثلما خلق فيه الضلال قال تعالى: ﴿‎وهديناه النجدين﴾ أي جعلنا فيه الخير والشر، اي خلق فيه الخير والشر، غير ان الانسان هو الذي يباشر ما خلقه الله فيه من قابلية الهدى والضلال، قال تعالى ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾ فهو الذي يتصف بصفات الهدى فيهتدي، ويتصف بصفات الضلال فيضل فاذا اتصف بصفات الضلال كالكفر أو فعل المعاصي والمحرمات فإن هذه الصفات تتناقض مع الهداية فلا يهتدي ولا يمكن ان يهتدي، اما اذا اتصف بصفات الهدى كالاهتداء الى الاسلام والايمان به واتباع اوامره واجتناب نواهيه فان هذه الصفات تتناقض مع الضلال فلا بد ان يهتدي، ولا بد ان يظل سائرا في طريق الهداية. اما اذا حاد عن طريق الهداية بان اتصف ببعض صفات الضلال فانه حينئذ يضل ولا يهتدي الا اذا ترك هذا العمل الذي اودى به الى الضلال. 

وعلى هذا جاءت الايات في تحديد معنى التوفيق للهداية ببيان اسباب الهداية للانسان وبيان ما يتنافى مع هذه الهداية من صفات قال تعالى ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)﴾ وقال ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)﴾ وقال ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ﴾ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ ﴿‎إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ ﴿‎اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ فهذه الايات تدل دلالة قطعية على ان الله يهدي بالقران، فان من اتبع القران وامن به فانه يهديه، وان من ينيب الى الله او يلتجأ اليه فان الله يهديه او انه يكون على الهدى. أما من اتصف بصفات تتناقض مع الهداية كالظالم والفاسق والكافر والضال والخائن والمسرف الكذاب فانه لا يهتدي، اي ان الله لا يوفق للهداية من كانت هذه صفاته، ‎لان التوفيق للهداية تهيئة أسبابها للانسان، ومن يتصف بهذه الصفات لم تتهيأ له اسباب الهداية بل اسباب الضلال، فعلى الانسان أن يسلك سبيل الهداية ثم الله يوفقه بأن يهيئ له أسبابا تعينه عليها. 

قال الشعراوي رحمه الله عن هداية الله: والهداية نوعان: هداية دلالة وهداية معونة. هداية الدلالة هي للناس جميعا.. وهداية المعونة هي للمؤمنين فقط المتبعين لمنهج الله. والله سبحانه وتعالى هدى كل عباده هداية دلالة أي دلهم على طريق الخير وبينه لهم.. فمن أراد أن يتبع طريق الخير اتبعه.. ومن أراد ألا يتبعه تركه الله لما أراد..
هذه الهداية العامة هي أساس البلاغ عن الله. فقد بين لنا الله تبارك وتعالى في منهجه بافعل ولا تفعل ما يرضيه وما يغضبه.. وأوضح لنا الطريق الذي نتبعه لنهتدي. والطريق الذي لو سلكناه حق علينا غضب الله وسخطه.. ولكن هل كل من بين له الله سبحانه وتعالى طريق الهداية اهتدى؟.. نقول لا.. واقرأ قوله جل جلاله: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)﴾[فصلت] اذن هناك من لا يأخذ طريق الهداية بالاختيار الذي أعطاه الله له.. فلو أن الله سبحانه وتعالى أرادنا جميعا مهديين.. ما استطاع واحد من خلقه أن يخرج على مشيئته. ولكنه جل جلاله خلقنا مختارين لنأتيه عن حب ورغبة بدلا من أن يقهرنا على الطاعة.. ما الذي يحدث للذين اتبعوا طريق الهداية والذين لم يتبعوه وخالفوا مراد الله الشرعي في كونه؟
الذين اتبعوا طريق الهداية يعينهم الله سبحانه وتعالى عليه ويحببهم في الايمان والتقوى ويحببهم في طاعته.
واقرأ قوله تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ﴾ [محمد: 17] أي أن كل من يتخذ طريق الهداية يعينه الله عليه.. ويزيده تقوى وحبا في الدين.. أما الذين إذا جاءهم الهدى ابتعدوا عن منهج الله وخالفوه.. فإن الله تبارك وتعالى يتخلى عنهم ويتركهم في ضلالهم. واقرأ قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)﴾ [الزخرف] والله سبحانه وتعالى قد بين لنا المحرومين من هداية المعونة على الايمان وهم ثلاثة كما بَيَّنْهُم لنا في القرآن الكريم: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)﴾ [النحل] ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)﴾ [المائدة] ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)﴾ [البقرة] اذن فالمطرودون من هداية الله في المعونة على الايمان.. هم الكافرون والفاسقون والظالمون..

أحوال تعدي فعل الهداية في اللغة:

قال الدكتور فاضل السامرائي: وفعل الهداية هدى يهدي في العربية قد يتعدى بنفسه دون حرف جر مثل ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (تعدى الفعل بنفسه) وقد يتعدى بإلى ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)﴾ (الشورى) ﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)﴾ (النازعات) وقد يتعدى باللام ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ (الاعراف 43) ﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)﴾ (الحجرات)

ذكر أهل اللغة أن الفرق بين التعدية بالحرف والتعدية بالفعل نفسه أن التعدية بالحرف تستعمل عندما لا تكون الهداية فيه، بمعنى أن المهدي كان خارج الصراط (الطريق) فهداه الله له فيصل بالهداية اليه. والتعدية بدون حرف تقال لمن يكون فيه (أي في الطريق) ولمن لا يكون فيه، كقولنا هديته الطريق قد يكون هو في الطريق فنعرفه به، وقد لا يكون في الطريق فنوصله اليه. ﴿فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)﴾ (مريم) لم يكن أبو سيدنا ابراهيم في الطريق، ﴿وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)﴾ (النساء) والمنافقون ليسوا في الطريق. واستعملت لمن هم في الصراط ﴿وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا﴾ (ابراهيم آية 12) قيلت في رسل الله تعالى وقال تعالى مخاطبا رسوله ﴿وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)﴾ (الفتح) والرسول مالك للصراط. استعمل الفعل المعدى بنفسه في الحالتين.

التعدية باللام وإلى: لمن لم يكن في الصراط ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)﴾ (ص) ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)﴾ (يونس)

وتستعمل هداه له: بمعنى بينه له، والهداية على مراحل وليست هداية واحدة فالبعيد عن الطريق، الضال، يحتاج من يوصله اليه ويدله عليه (نستعمل هداه إليه) 

والذي يصل الى الطريق يحتاج الى هاد يعرفه بأحوال الطريق وأماكن الامن والنجاة والهلاك للثقة بالنفس ثم إذا سلك الطريق في الاخير يحتاج إلى من يريه غايته: نستعمل الفعل المتعدي بنفسه.

وأخيرا: استعمل سبحانه اللام: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ (الاعراف آية 43) وهذه خاتمة الهدايات.

ونلخص ما سبق على النحو التالي:

-إنسان بعيد يحتاج من يوصله إلى الطريق نستعمل الفعل المتعدي بإلى.

-إذا وصل ويحتاج من يعرفه بالطريق وأحواله نستعمل الفعل المتعدي بنفسه.

-إذا سلك الطريق ويحتاج إلى من يبلغه مراده نستعمل الفعل المتعدي باللام.

الهداية مع اللام لم تستعمل مع السبيل أو الصراط أبدا في القرآن لأن الصراط ليست غاية انما وسيلة توصل للغاية واللام انما تستعمل عند الغاية. وقد اختص سبحانه الهداية باللام له وحده أو للقرآن لأنها خاتمة الهدايات كقوله ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ (الاسراء آية 9) وقوله ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ (النور آية 35)

نعود إلى الآية ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (الفعل معدى بنفسه) وهنا استعمل هذا الفعل المعدى بنفسه لجمع عدة معاني فالذي انحرف عن الطريق نطلب من الله تعالى أن يوصله إليه والذي في الطريق نطلب من الله تعالى أن يبصره بأحوال الطريق والثبات والتثبيت على الطريق.

وهنا يبرز تساؤل آخر ونقول كما سبق وقدم سبحانه مفعولي العبادة والاستعانة في ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فلماذا لم يقل سبحانه إيانا اهدي؟ هذا المعنى لا يصح فالتقديم ب﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ تقيد الاختصاص ولا يجوز ان نقول إيانا اهدي، بمعنى خصنا بالهداية ولا تهدي أحدا غيرنا فهذا لا يجوز لذلك لا يصح التقديم هنا. المعنى تطلب التقديم في المعونة والاستعانة ولم يتطلبه في الهداية لذا قال ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾.

فلم قال اهدنا ولم يقل اهدني؟

لانه مناسب لسياق الآيات السابقة وكما في آيات الاستعانة والعبادة  اقتضى الجمع في الهداية ايضا.

وفيه إشاعة لروح الجماعة وقتل لروح الأثرة والأنانية وفيه نزع الأثرة والاستئثار من النفس بأن ندعو للآخرين بما ندعو به لانفسنا.

الاجتماع على الهدى وسير المجموعة على الصراط دليل قوة فاذا كثر السالكون يزيد الانس ويقوى الثبات فالسالك وحده قد يضعف وقد يمل او يسقط او تأكله الذئاب. فكلما كثر السالكون كان ادعى للاطمئنان والاستئناس.

والاجتماع رحمة والفرقة عذاب، يشير لله تعالى الى أمر الاجتماع والأُنس بالاجتماع وطبيعة حب النفس للاجتماع كما ورد في قوله الكريم ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)﴾ (النساء) خالدين جاءت بصيغة الجمع لان المؤمنين في الجنة يستمتعون بالأُنس ببعضهم وقوله ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)﴾ (النساء) في العذاب فيزيد على عذاب الكافر عذاب الوحدة فكأنما عذبه الله تعالى بشيئين النار والوحدة.

لذا فعندما قال سبحانه وتعالى ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ فيه شئ من التثبيت والاستئناس هذا الدعاء ارتبط بأول السورة وبوسطها وآخرها. 

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين﴾ مهمة الرب هي الهداية وكثيرا ما اقترنت الهداية باسم الرب فهو مرتبط برَبِّ العَالَمِين وارتبط بقوله ﴿ٱلرَّحْمَـٰن ٱلرَّحِيم﴾ لأن من هداه الله فقد رحمه وأنت الان تطلب من ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ الهداية اي تطلب من ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ ان لا يتركك ضالا غير مهتد، ثم قال ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فلا تتحقق العبادة الا بسلوك الطريق المستقيم وكذلك الاستعانة ومن الاستعانة طلب الهداية للصراط المستقيم ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ﴾ أي صراط الذين سلكوا الصراط المستقيم، ﴿وَلاَ الضَّالِّينَ﴾، والضالون هم الذين سلكوا غير الصراط المستقيم فالهداية والضلال نقيضان والضالين نقيض الذين سلكوا الصراط المستقيم.

 

﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ﴾

﴿صِرَاطَ﴾ بدل من الأول (أي الصراط) – بدل الكل من الكل – وهو فى حكم تكرير العامل من حيث أنه المقصود بالنسبة، وفائدته: التوكيد والتنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة، على آكد وجه وأبلغه لأنه جعله كالتفسير والبيان له، فكأنه من البيّن الذي لا خفاء فيه، وأن الصراط المستقيم ما يكون طريق المؤمنين، و﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ بدل من ﴿الذين﴾ على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال.
أو صفة له مبيّنة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة، وهى نعمة الإيمان، وبين السلامة من الغضب والضلال،

قال ابن عاشور: فالمراد من المنعم عليهم الذين أفيضت عليهم النعم الكاملة ولا تخفى تمام المناسبة بين المنعم عليهم وبين المهديين حينئذٍ فيكون في إبدال ﴿صراط الذين﴾ من ﴿الصراط المستقيم﴾ معنى بديع وهو أن الهداية نعمة وأن المنعَم عليهم بالنعمة الكاملة قد هُدوا إلى الصراط المستقيم. والذين أنعم الله عليهم هم خيار الأمم السابقة من الرسل والأنبياء الذين حصلت لهم النعمة الكاملة. ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وحسن أولئك رفيقا.

و ﴿الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ هم المذكورون في سورة النساء، حيث قال: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾ [النساء: 69، 70].

لماذا قال ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ  وَلاَ الضَّالِّينَ﴾؟ 

اي لماذا عبر عن الذين أنعم عليهم باستخدام الفعل ﴿أَنعَمتَ﴾ والمغضوب عليهم والضآلين بالاسم؟

الاسم يدل على الشمول ويشمل سائر الازمنة من المغضوب عليهم والدلالة على الثبوت. أما الفعل فيدل على التجدد والحدوث فوصفه انهم مغضوب عليهم وضالون دليل على الثبوت والدوام.

والنعمة بالكسر وبالفتح مشتقة من النعيم وهو راحة العيش والترفه. قال الجوهري في الصحاح: النِعْمَةُ: اليدُ، والصنيعةُ، والمنَّةُ، وما أُنْعِمَ به عليك. وكذلك النُعْمى. فإن فتحت النون مددت فقلت: النَعْماءُ. والنَعيمُ مثله. وفلانٌ واسعُ النِعْمَةِ، أي واسع المال.

إذن فلماذا لم يقل المُنْعَمِ عليهم للدلالة على الثبوت؟  

لو قال صراط المنعم عليهم بالاسم، لم يتبين المعنى أي من الذي أنعَمَ انما بيَّن الـمُنعِم (بكسر العين) في قوله ﴿أَنعَمتَ عَلَيهِمْ﴾ لأن معرفة المنعِمِ مهمة، فالنِّعَمُ تُقَدَّرُ بمقدار الـمُنْعِمِ (بكسر العين) لذا أراد سبحانه وتعالى أن يبين المنعم ليبين قدر النعمة وعظيمها ومن عادة القرآن أن ينسب الخير إلى الله تعالى وكذلك النعم والتفضل وينزه نسبة السوء اليه سبحانه ﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)﴾ (الجن) والله سبحانه لا ينسب السوء لنفسه فقد يقول ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)﴾ (النمل) لكن لا يقول زينا لهم سوء اعمالهم ﴿زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ﴾ (التوبة آية 37) ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾ (آل عمران آية 14) ﴿زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ﴾. (غافر آية 37) ﴿كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ أما النعمة فينسبها الله تعالى الى نفسه لان النعمة كلها خير ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ (القصص آية 17) ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ﴾ (الزخرف آية 59) ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)﴾ (الاسراء آية 83) ولم ينسب سبحانه النعمة لغيره الا في آية واحدة ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ﴾ (الاحزاب آية 37) فهي نعمة خاصة بعد نعمة الله تعالى عليه.

﴿غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ  وَلاَ الضَّالِّينَ﴾

قال ابن عاشور في تأويل الغضب: والغضب المتعلق بالمغضوب عليهم هو غضبُ اللَّهِ. وحقيقة الغضب المعروفِ في الناس أنه كيفية تعرض للنفس يتبعها حركة الروح إلى الخارج وثورانها فتطلب الانتقام، فالكيفيةُ سبب لطلب الانتقام وطلب الإنتقام سبب لحصول الانتقام. والذي يظهر لي أن إرادة الانتقام ليست من لوازم ماهية الغضب بحيث لا تنفك عنه ولكنها قد تكون من آثاره، وأن الغضب هو كيفية للنفس تعرض من حصول ما لا يلائمها فتترتب عليه كراهية الفعل المغضوب منه وكراهية فاعله، ويلازمه الإعراض عن المغضوب عليه ومعاملتُه بالعُنف وبقطع الإحسان وبالأذى وقد يفضى ذلك إلى طلب الانتقام منه فيختلف الحد الذي يثور عند الغضب في النفس باختلاف مراتب احتمال النفوس للمنافرات واختلاف العادات في اعتبار أسبابه، فلعل الذين جعلوا إرادة الانتقام لازمة للغضب بنَوا على القوانين العربية.
وإذْ كانت حقيقة الغضب يستحيل اتصاف الله تعالى بها وإسنادُها إليه على الحقيقة للأدلة القطعية الدالة على تنزيه الله تعالى عن التغيرات الذاتية والعرضية، فقد وجب على المؤمن صَرف إسناد الغضب إلى الله عن معناه الحقيقي، وطريقةُ أهل العلم والنظر في هذا الصرف أن يصرف اللفظ إلى المجاز بعلاقة اللزوم أو إلى الكناية باللفظ عن لازم معناه فالذي يكون صفة لله من معنى الغضب هو لازمه، أعني العقاب والإهانة يوم الجزاء واللعنة أي الإبعاد عن أهل الدين والصلاح في الدنيا أو هو من قبيل التمثيلية.

﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ  وَلاَ الضَّالِّينَ (7)﴾ لماذا ذكرت المغضوب عليهم بصيغة المبني للمجهول والضالين بصيغة إسم الفاعل؟

أولاً جيء بكل منهما إسماً ﴿المَغضُوبِ عَلَيهِمْ﴾ و﴿الضَّالِّينَ﴾ للدلالة على الثبوت، فالغضب عليهم ثابت والضلال فيهم ثابت، لا يرجى فيهم خير ولا هدى، لم يقل صراط الذين غضب عليهم وضلوا وإنما ﴿المغضوب عليهم وَلاَ الضَّالِّينَ﴾  فجاء بالوصفين بالإسمية للدلالة على ثبوت هذين الوصفين فيهما. يبقى السؤال لماذا جاء المغضوب عليهم إسم مفعول ولم يقل غاضب إسم فاعل؟ مغضوب عليهم إسم مفعول يعني وقع عليهم الغضب لم يذكر الجهة التي غضبت عليهم ليعم الغضب عليهم من جميع الجهات غضب الله وغضب الغاضبين لله من الملائكة وغيرهم لا يتخصص بغاضب معين ليس غضب عليهم فلان أو فلان وإنما مغضوب عليهم من كل الجهات بل هؤلاء سيغضب عليهم أخلص أصدقائهم في الآخرة ﴿وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94)﴾ الأنعام ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا (25)﴾ العنكبوت، إذن مغضوب عليهم من جميع الجهات من كل الجهات، حذف جهة الغاضب فيه عموم وشمول. أما الضالين فهم الذين ضلّوا.

فلماذا قدم اذن المغضوب عليهم على الضآلين؟

 المغضوب عليهم الذين عرفوا ربهم ثم انحرفوا عن الحق وهم اشد بعدا لان ليس من علم كمن جهل لذا بدأ بالمغضوب عليهم وفي الحديث الصحيح ان المغضوب عليهم هم اليهود واما النصارى فهم الضالون. واليهود اسبق من النصارى ولذا بدأ بهم واقتضى التقديم.

وصفة المغضوب عليهم، هي أول معصية ظهرت في الوجود وهي صفة ابليس عندما امر بالسجود لآدم عليه السلام وهو يعرف الحق ومع ذلك عصى الله تعالى وهي اول معصية ظهرت على الارض ايضا عندما قتل ابن آدم اخاه فهي اذن اول معصية في الملأ الأعلى وعلى الأرض ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)﴾ (النساء) ولذا بدأ بها.

أما جعل المغضوب عليهم بجانب المنعم عليهم فلان المغضوب عليهم مناقض للمنعم عليهم والغضب مناقض للنعم.

فمن منا مهما بلغ من فصاحة وبلاغة وبيان.. من منا يستطيع أن يأتي بكلام فيه هذا الإحكام وهذا الاستواء مع حسن النظم ودقة الانتقاء، فكل كلمة في موقعها جوهرة ثمينة منتقاة بعناية لتؤدي معاني غزيرة بكلمات يسيرة، كل واحدة واسطة عقد لا يجوز استبدالها ولا نقلها ولا تقديمها ولا تأخيرها وإلا لاختل المعنى أو ضعف أو فقد بعض معانيه؟
إنه الإعجاز الإلهي الذي يتجلى في الكون كله، ويحف بالقرآن كله، مجموعه وجزئياته، كلماته وحروفه، معانيه وأسراره، ليكون النور الذي أراد الله أن يهدي ويسعد به كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين.

 ويشمل المغضوب عليهم والضالون فِرَق الكفر والفسوق والعصيان، فالمغضوب عليهم جنس للفرق التي تعمدت ذلك واستخفت بالديانة عن عمد أو عن تأويل بعيد جداً، والضالون جنس للفِرَق التي أخطأت الدين عن سوء فهم وقلة إصغاء؛ وكلا الفريقين مذموم لأننا مأمورون باتباع سبيل الحق وصرف الجهد إلى إصابته، واليهود من الفريق الأول والنصارى من الفريق الثاني. وما ورد في الأثر مما ظاهره تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى فهو إشارة إلى أن في الآية تعريضاً بهذين الفريقين اللذين حق عليهما هذان الوصفان لأن كلاً منهما صار عَلَماً فيما أريد التعريض به فيه .

قال ابن كثير رحمه الله: وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه، لكن أخص أوصاف اليهود الغضب كما قال فيهم: ﴿مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ [المائدة: 60] وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال: ﴿قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل﴾ [المائدة: 77].

يستحب لمن قرأ الفاتحة أن يقول بعدها: آمين [مثل: يس]، ويقال: أمين. بالقصر أيضًا [مثل: يمين]، ومعناه: اللهم استجب، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود، والترمذي، عن وائل بن حجر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾ فقال: “آمين”، مد بها صوته، ولأبي داود: رفع بها صوته، وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وروي عن علي، وابن مسعود وغيرهم.
وعن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾ قال: “آمين” حتى يسمع من يليه من الصف الأول، رواه أبو داود، وابن ماجه، وزاد: يرتج  بها المسجد، والدارقطني وقال: هذا إسناد حسن.
وعن بلال أنه قال: يا رسول الله، لا تسبقني بآمين. رواه أبو داود.
وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أعطيت آمين في الصلاة وعند الدعاء، لم يعط أحد قبلي إلا أن يكون موسى، كان موسى يدعو، وهارون يؤمن، فاختموا الدعاء بآمين، فإن الله يستجيبه لكم”.
قلت: ومن هنا نزع بعضهم في الدلالة بهذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [يونس: 88، 89]، فذكر الدعاء عن موسى وحده، ومن سياق الكلام ما يدل على أن هارون أمَّن، فنزل منزلة من دعا، لقوله تعالى: ﴿قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا﴾ [يونس: 89]، فدلّ ذلك على أن من أمَّن على دعاء فكأنما قاله؛ فلهذا قال من قال: إن المأموم لا يقرأ لأن تأمينه على قراءة الفاتحة بمنزلة قراءتها؛ ولهذا جاء في الحديث: “من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة”، وكان بلال يقول: لا تسبقني بآمين. فدل هذا المنزع على أن المأموم لا قراءة عليه في الجهرية، والله أعلم.
ولهذا قال ابن مَرْدُويه: حدثنا أحمد بن الحسن، حدثنا عبد الله بن محمد بن سلام، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا جرير، عن ليث بن أبي سليم، عن كعب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا قال الإمام: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾ فقال: آمين، فتوافق آمين أهل الأرض آمين أهل السماء، غفر الله للعبد ما تقدم من ذنبه، ومثل من لا يقول: آمين، كمثل رجل غزا مع قوم، فاقترعوا، فخرجت سهامهم، ولم يخرج سهمه، فقال: لِمَ لَمْ يخرج سهمي؟ فقيل: إنك لم تقل: آمين”